من أفضل أساليب الكتابة التحليلية هي استدراج القارئ من خلال التعمق بالمبدأ المطروح لاستنتاج خلاصة مبنية على خلفية علمية مستقلة. فإما أن يُسر الكاتب إن تطابق ذلك الاستنتاج مع مقترحه أو يزيد علمًا إن لم يتطابق. كما أن للفيلم الجيد جاذبية و تقدير إن لم تكن نهايته معروفة، يخلق الكاتب العلمي الجيد جاذبية مماثلة لموضوعه الدراسي باستدراج قرائه من الغامض إلى الظاهر. أما للأسف ففي زمننا المتأزم بخصوص أي نقاش ديني اسلامي أو ما قد يبدو دينياً، إن لم يبدأ الفرد بالظاهر حكم عليه بالغامض مسبقاً، إنصافاً أم ظلماً، قبل انتهائه من عرض موضوعه بأكمله. لذلك لموضوعنا اليوم دعني أخلط بين الظاهر و الغامض. فأنا أرى و أؤمن بإعجاز القرآن بأكمله من ناحيته العقائدية واللغوية و الأخلاقية و الفلسفية. ولم و لن أسمع بمثله، كما قال تعالى:”وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍۢ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا۟ بِسُورَةٍۢ مِّن مِّثْلِهِۦ وَٱدْعُوا۟ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ (٢٣) البقرة”. وها قد أظهرت بتضرعٍ و دون حياء موقفي العقائدي جهراً، دعنا نبدأ في موضوعنا الحضاري الديني.
اختلفت مدارس الفكر الإسلامي عبر التاريخ في بعض الخواص. وكانت لتلك الاختلافات عواقب متفاوتة. منها من باء بتقبل اختلافاته الفقهية كاختلافات تأويلية بين ملة واحدة. كما اعتبر أهل السنة والجماعة المذهب المالكي و الشافعي و الحنبلي والحنفي مذاهب سنية ذات اختلافات ثانوية. و منها ما اعتبر المذهب الآخر مذهباً إسلامياً و لكن تفاوتت نسبة تقبله حسب المكان و الزمان و الحالة السياسية وقتها. كتآلف السنة و الشيعة، و الشيعة و الموحدين، و الموحدين و الصوفية على مدى التاريخ. و منها من لم يؤمن بإسلام الآخر و أباده كما قضي على فكر المعتزلة. ومن الملاحظ أن اختلاف العديد من تلك المذاهب كان اختلافاً في التأويل فقط ولم يكن اختلافاً في تاريخ النبوة أو جوهر العقيدة؛ فتلك المذاهب جميعها آمنت في نبوة محمد عليه السلام و رسالته المحفوظة في القرآن الكريم و مدونة في مصحف عثمان خصيصاً.
فإن أردنا التمعن في بعض الفوارق التي اعتبرت جوهرية بين فئتين، لوجدنا مثالاً خصباً في اختلافات أهل السنة والمعتزلة. يمكننا إختيار أهمها: أولاً، خلق القرآن. ثانياً، القدر. فأهل العدل و التوحيد كما لقب المعتزلة أنفسهم آمنوا في الكتاب ككتاب إلهي محفوظ. و من أفضل من كتب في تأويل القرآن و إن اختلف بعض الأئمة عامةً و أئمة السنة خاصةً مع بعض تأويلاته، رغم تقديرهم جميعاً لتحليله اللغوي وأسلوبه التقني، هو العالم أبو القاسم الزمخشري، أحد أوليائهم. فرغم إيمان المعتزلة بكلام الله إلا أنهم لم يتفقوا مع أهل السنة بخصوصية معنى إنزال القرآن و هل هو مخلوق أم غير مخلوق. ففي عهد الخليفة المأمون شهدت الخلافة ازدهاراً علمياً و فكرياً وعمليات واسعة لترجمة العلوم و الآداب السريانية و الفارسية واليونانية إلى العربية ختاماً بتأسيس جامعة بيت الحكمة في بغداد. وقتها اكتسبت اللغة العربية مكانة مرموقة بين الأمم ليس كلغة شعر و أدب فحسب بل كلغة فلسفة و علوم بما فيها الطب و الرياضيات و الجغرافيا و الفلك. و في تلك الأجواء إحتضن المأمون مذهب المعتزلة الذي وجده متناسباً عقائدياً و فلسفياً مع انفتاحه العلمي و الأدبي. و لكن رغم ذلك الانفتاح في عهد المأمون، أراد ابن هارون الرشيد العباسي نشر عقيدته و مذهبه بالقوة خلافاً لمعنى الانفتاح الفكري الذي كان ينشده. مما أدى إلى خلاف عقائدي بينه و بين أهل السنة اختتم بسجن الإمام أحمد بن حنبل و تعذيبه فيما سمي بمحنة خلق القرآن. حيث أن المأمون آمن بمبدأ المعتزلة المتأثر بالفلسفة بأن القرآن مخلوق؛ أي أن القرآن كلام الله ووحيه لكنه كُوِن أو صُنع في زمانٍ و مكانٍ محددين. حيث أن المعتزلة ترى أن “القرآن كلام الله ووحيه، وهو مخلوق محدث، أنزله الله على نبيه ليكون علماً و دالاً على نبوته، و جعله دلالة لنا على الأحكام لنرجع إليه في الحلال و الحرام، واستوجب منا بذلك الحمد والشكر والتحميد والتقديس” كما كتب القاضي أبو الحسن عبد الجبار، أحد أبرز أركان المعتزلة. وفي نظر المعتزلة، كون القرآن مخلوق فهو نص تاريخي له زمان و مكان هُما وقت النبوة الاسلامية و شبه الجزيرة العربية. ولذلك وجب أن يعتمد الزمان و المكان و سبب النزول و الحاجة في تأويل النص لا التسليم بالمعنى الحرفي الظاهري. بينما رأى أهل السنة و الجماعة أن القرآن كلام الله غير مخلوق؛ أي أنه كلام الله أزلي لم يُكَوَّن في زمان النبوة أو لمكان الرسالة، و لكن أنزله سبحانه على نبيه عليه السلام في زمانه. لذلك وجب تأويله حرفياً ظاهرياً كونه صالح حرفياً لكل زمان ومكان. و هكذا أُرعبَ كلا الفريقين حيثُ إضطُهد أهل السنة و الجماعة في عهد المأمون و ذُبِّح المعتزلة في عهد المتوكل. ليس لعدم إيمان إحدى الفريقين بنبوة محمد عليه السلام أو إنزال القرآن الكريم عربياً محفوظاً أو حتمية الحساب في اليوم الآخر أو وجوب العمل الصالح، و لكن لاختلافهم في تأويلهم بعض آيات القرآن الكريم؛ مهملين كلامه تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) البقرة”
كما اختلف المعتزلة و أهل السنة حول القضاء و القدر أيضاً. فأهل السنة وجدت في القرآن دلالات عدة على إحاطة علمه تعالى بكل شيء وشمول إرادته لكل ما يقع في الكون من خير أو شر. فالقدر، أو ماضي و حاضر و مستقبل و عواقب الفرد أم الشيء لتبسيط المبدأ، عند أهل السنة معلوم و مكتوب و محفوظ لكل فرد و دابة في الكون. ” وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦) هود”. لذلك رأى أهل السنة أن قرار أو عمل الفرد سواء كان خيراً أو شراً قد شاءه الله سبحانه. ” وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (٣٠) الإنسان”. بينما رأى المعتزلة أن الله سبحانه لا يفعل إلا الخير و هو نزيه عن فعل الشر. وبذلك استنتجوا حرية قرار الفرد كون الله سبحانه لا يفعل الشر. حيث قال واصل بن عطاء مؤسس المعتزلة “إن الباري تعالى حكيم عادل لا يجوز أن يضاف إليه شر ولا ظلم، ولا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمر ويحتم عليهم شيئاً ثم يجازيهم عليه. فالعبد هو الفاعل للخير والشر، والإيمان والكفر، والطاعة والمعصية.”(الملل والنحل، ج 1، ص 47). وكما رأى أهل السنة و الجماعة عدة دلالات حول حتمية القدر في الكتاب الكريم، بنى المعتزلة إحدى مبادئهم الخمسة حول العدل و حرية قرار و فعل الفرد إستناداً للكتاب الكريم ذاته: “كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) المدثر”، “مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (٤٦) فصلت”، “وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ… الآية… (٢٩) الكهف”. ورغم حصر اختلافات الفريقين في التأويل فحسب و ليس في الجوهر، أساء المعتزلة لمذهب الجبرية، كإساءة السنة لمذهب القدرية؛ كما كانوا يلقبون بعضهم ازدراءً و توبيخاً، حيث الإنسان مجبر على أفعاله عند أهل السنة و قادر عليها عند المعتزلة.
ولكن إن تمعنا في تاريخ ازدهار و انحدارالمعتزلة لرأينا أنها تطابقت مع صعود لفكرٍ سياسي و هبوطه. ولذلك أُيدت ثم دُثرت. فكما انفصلت إنجلترا عن الكنيسة في روما لأسباب فردية و سياسية و ليست عقائدية، عُذِّب الإمام أحمد بن حنبل في زمن المأمون و لوحق المعتزلة في زمن المتوكل. وكثيراً ما نسمع في بعض دوائر مثقفينا من يقول بأن المعتزلة ترعرعت في عز زمن النهضة في عهد المأمون و لو أنها سيطرت على عقيدتنا لاختلف حاضرنا المؤلم. ولكنني لا أؤيد هذا القول. فزمن المأمون رغم انفتاحه الفلسفي و العلمي كان زمن سلطة مورَّثة حاضنة لفكر فرد من بيت عثمان. لم يُفطم الشعب فيه بعد عن عبوديةِ حضانةِ الوالي ليطالب بحرية الفكر و القرار و المصير. و كون تقبل تعدد تأويل الدين و مذاهبه دلالة تحرر الفرد تاريخياً، فزمن المأمون و المتوكل و كل ما تبع ذلك ليومنا هذا لم يقدم لكل فرد في مجتمعنا حريته التي خلقه الله عليها. فحرية القرار لا تعطى من المأمون و غيره و لكنها تؤخذ بالعلم و السواعد. فعندما نعي و نعمل بحكمة ما قاله سبحانه و تعالى، “لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦) الكافرون” لنبيه عليه السلام كي يخاطب به من كفر برسالته و ربه، وقتها يبدأ تحرر فكرنا من عبوديته. عظةٌ من سبحانه لنبيه عليه السلام ليخاطب بها الكافرين، فما بالنا نعاقب من يخالفنا ولا نقولها حتى للمؤمنين في زماننا. نعاقب علماء ديننا من معتزلة و سنة و غيرهم إن لم يتطابق فكرهم و عقيدتهم مع سياسة حاضرنا. ناسين معنى الحنيفة في ديننا؛ فأوليس الحنف ليونة الشيء كما يُعرف بمعاجمنا؟ كل ذلك لاقتناعنا بأن وحدة مذهبنا خلاص جهلنا و استبدادنا. مكررين أقوالاً سطحية كمقولة أن عدونا الإسرائيلي انتصر علينا بوحدته الدينية عندما حول صراعنا إلى نزاعٍ عربي ثم فلسطينيٍ بدلاً من إبقاء صراعنا نزاعاً عقائدياً اسلامياً. مغفلين حقيقة أن الكيان الصهيوني ليس بكيانٍ أحادي المذهب و لكنه كيان صاهر لكل من ينتسب لصهيون العقيدة من يهودهم الأرثوذكسيين إلى الملحدين منهم من أصلٍ يهودي. مغفلين أن ذروة مجد حضارتنا قامت أيام نشأة و تعدد مذاهبنا و مدارس أفكارنا الدينية و العلمية و حتى الفلسفية. فأليس أجدر من أن نسرع في تكفير مؤمنينا و حبس أئمتنا و قتل مجتهدينا أن نعي معنى الحنيفة في ديننا و رحمة الله في تعدد تآويلنا. لعلنا بذلك نتحرر من قيود ماضينا و نرفع الذل عن حاضرنا و نرسم طريق الفخر لغدنا.