• بحث
  • استرجاع كلمة المرور؟

هل من روزا باركس جديدة؟

لنضع حماسنا و حكمنا جانبا و لننظر إلى وضع الشارع الأمريكي اليوم من خلال عدسة التاريخ. فمما لاشك فيه أن هناك عنصرية في أمريكا خاصة تجاه شعبها الأسود. و مما لاشك فيه أن السود في أمريكا أقل غنىً و أكثر فقراً و بطالةً مقارنة بإخوانهم البيض. ومما لا شك فيه أيضا أن الطفل الأسود في أمريكا لا يحظى بنفس الفرص التي يحظى بها نظيره الأبيض. فقد قصَّرت أمريكا تاريخيًا و حتى اليوم مع شعبها الأسود. ولكن هل نحن نشاهد اليوم هبوط الولايات المتحدة بين فيروس الكرونا و المظاهرات و الاضطرابات في شوارعها؟ و كيف نفسر انتخاب أمريكا لرئيس أسود من أبٍ كينيٍّ مسلم وهذا البلد توجد به هذه العنصرية و هذه التفرقة تجاه شعبه الأسود؟ و نحن كعرب على اختلاف ألواننا و عقائدنا و مشاكلنا كيف نتعلم و نستفيد من تاريخ و تجارب السود في أمريكا؟

الواضح اليوم أن الشارع الأمريكي متأزم و متفجر. و غضب شعبه الأسود من وضعهم و سوء معاملتهم من شرطتهم و قضائهم في بلدهم ظاهراً. فقد أشعلت وفاة زميلهم من شرطتهم ثائرتهم و حركت نشاطهم و مطالبهم. كما حدث في ١٩٥٥ حين رفضت الناشطة السوداء روزا باركس إفساح مقعدها على باص كانت تستقله في ولاية ألاباما الأمريكية لرجل أبيض اللون. موقفها البسيط و لكن الشجاع برفضها اخلاء مقعدها و عدم إطاعة قانون ولايتها العنصري كان الشرارة التي أدت إلى حركة مقاطعة ركوب الباصات في ولاية ألاباما التي استمرت عاما و١٦ يوماً و بروز أشهر ناشطيها و زميلها الراحل مارتن لوثر كنج الابن. فعدم إفساح الآنسة باركس مقعدها أدى إلى ظهور قيادة منظمة وموحدة في أهدافها بدءاً بطلب إزالة قانون التمييز العنصري لراكبي الحافلات في ولاية ألاباما. إن اصرار تلك القيادة على أهدافها ورفض أي تسوية مع الحكومة البيضاء و توعية و مساندة اخوتهم، الأكثر تأثراً، في الاستمرار في المقاطعة لإبقاء الضغط على الحكومة العنصرية أدى إلى تدخل القضاء الفدرالي الأمريكي الذي ألغى قانون التمييز العنصري لراكبي الحافلات في ولاية ألاباما.

ذلك كله أدى إلى زيادة التنظيم و التنسيق بين القادة السود و زيادة ثقة الشارع الأسود بمطالبه مما أدى إلى إلغاء جميع القوانين العنصرية في أمريكا التي سمحت حتى ذلك الوقت قانونياً بالتفرقة بين شعبها حسب لون بشرته.

فهل سقطت أمريكا يوم ذاك؟ ولو سُئلت الناشطة باركس يوم رفضها افساح مقعدها أو سألت الشارع العربي بأكمله إن كان بإمكان رجل أسود أن يُنتخب رئيسا لأمريكا هل كان ليُصدَّق؟ و هل استغل الاتحاد السوفيتي إضرابات و مشاكل أمريكا ليتوج محلها و يزيحها عن مكانتها؟ فدعنا نترك العجلة جانبًا في تحليل وضع أمريكا اليوم الذي يتشابه بوضعها في الأربعينيات و بداية الخمسينيات من ناحية عنصرية حكومتها و قيادتها و اضطراباتها الداخلية و منافستها الإقليمية مع نظيرها على الساحة العالمية و هي ما تزال لاعباً أساسيا مهيمناً على وضع و سياسة و احتلال و طننا العربي. و دعنا نحلل فعليا لماذا نجحت حركة السود في أمريكا في الخمسينيات و الستينيات و ساهمت في تعديل مسار بلدهم و تجديد نشاطه ليظهر الفائز الفعلي على الصعيد الداخلي و المهيمن الوحيد على الصعيد العالمي.

فهل جلوس آنسة سوداء هو السبب الفعلي في نجاح النشاط المدني الأميركي ضد العنصرية في الخمسينيات و الستينيات؟ فإن كان جلوس امرأة سوداء و رفضها تسليم مقعدها لشخص أبيض هو الشرارة الأساسية في نجاح تلك الحركة فلماذا لم نرَ ذلك الرد عندما رفضت الآنسة كلوديت كولفين إفساح مقعدها لسيدة بيضاء في المدينة ذاتها و الولاية ذاتها و على متن أحد حافلاتها ٩ أشهر قبل رفض الناشطة روزا باركس إفساح مقعدها؟

هناك الدرس التاريخي. و هنا درس اليوم للشارع الأسود الأمريكي. و هناك درس البارحة للشارع المحتل و المظلوم العربي. و هنا درس المقاومة ضد الاحتلالها الصهيوني. و درس شارع ثورة الربيع ضد قادتها التي سلبت تلك الثورة منها.

روزا باركس لم تكن كنظيرتها الآنسة كلوفين فتاة سوداء صغيرة في الخامسة عشرة من عمرها رافضة تسليم مقعدها لشخص أبيض. روزا باركس كانت ناشطة في الرابطة الوطنية لتقدم الملوَّنين لقرابة ١٢ عامًا قبل موقفها المشهور. كما أنها كانت سكرتيرة تلك الرابطة في مدينتها في ولاية ألاباما. روزا باركس كانت متعلمة ذات شهادة ثانوية في وقت قلت فيه حملة الشهادات الثانوية من السيدات السود. كما أن قيادة حركة الحقوق المدنية السوداء في أمريكا قد أصبحت وقتها أكثر نشاطاً و تنظيمًا و نضجًا و تعليماً. أضف إلى ذلك قدوم القس و الناشط الراحل مارتن لوثر كنج الابن و الناطق باسم تلك الحركة لنستنتج أنه كانت هناك حركة منظمة و موحدة و مناضلة و ممثلة للشارع الأسود و محركة لخطواته.

أما اليوم، فهل نرى روزا باركس في هذه الانتفاضة الأمريكية؟ و هل نرى قادة للسود كما في الخمسينيات و الستينيات؟ هل ستنجح ثورة أمريكا اليوم في تعديل وضع أبنائها السود و التخلص من بعض عنصرية ذلك البلد؟ أم هل هذه ثورة سريعة الضياع كثورة الربيع العربي إن لم تنضج و تصبح بداية لإفراز قيادة جديدة سوداء تمثل طموحات شعبها و بعيدة عن مصالحها في واشنطن لتمهد الطريق لاستنساخ روزا باركس جديدة؟ كل ذلك يعتمد على قيادة الشارع الثائر الأمريكي و مثابرة شعبه وصبره لتصحيح مسار قيادته السوداء و عدم القبول بأقل من مطالبه مهما كلف الأمر من تضحية و وقت و جهد. ولكن الذي يمكن تأكيده أن قوانين شرطة و قضاء أمريكا سوف تُعدل إلى حدٍ يتوافق مع مطالب قادته و شارعه و أهدافه و تسوياته.

أما من ناحية زوال هيمنة أمريكا اليوم، فلا داعي للعجلة. فطالما أمريكا تظل تستقطب و تجنس و تاريخياً تحتضن علماء و كفاءات العالم وتدمجهم كجزء لا يتجزأ من مجتمعها فهي بذلك تثبت مكانتها و تلعب هذه الإحتجاجات دورًا محوريًا في تجديد حياتها و هيبتها. ولكن ان اتجهت أمريكا إلى الإنغلاق الداخلي و التعصب العرقي الذي يروج له العديد من قادتها المحافظين الجدد اليوم، و تفقد هذه الإحتجاجات و ما يليها من إحتجاجات أخرى قدرتها على تصحيح مسار بلادها فوقتها يبدأ العد التنازلي لمكانة و هيبة أمريكا عالميًا.

و دعنا نتذكر أولا، أنه حتى مع كل هذه الإضرابات فالشارع الأمريكي مازال يطالب بتعديل وتحديث قوانين بلاده و تحسين حال أولاده و لا يطالب بتغيير نظامه أو أسس كيانه. و ثانيا، وهو الأهم،أن الشعب الأمريكي يرى في هذه الإضرابات إثباتًا لحبه لوطنه و واجباً عليه لاستكمال مسار و أحلام قيادته الراحلة لتصحيح مكانة بلاده. فإن نجحت ثورتهم اليوم ،أو ما بعد اليوم، المعتمدة على الحريات و الإنفتاح و خاصة حال و مقام مواطنيها السود كما حدث في حربها الأهليه و في ثورة الخمسينيات، فلنتعظ لأن أمريكا قد تنهض كما نهضت في آواخر الستينيات لتجدد موقعها في العالم و هيمنتها عليه. فأنا لا أدافع هنا عن النظام الرأسمالي الأمريكي و لكنني أؤكد أن قوة أية أمة تكمن بانفتاحها و بالتالي تقبلها لنقد شارعها و ثورته ضد قوانينها و تصرفاتها ان كانت غير عادلة أو غير منصفة. فذلك ليس دليل ضعف تلك الأمة و لكنه على عكس ذلك فهو دليل قوتها و صدارتها و مكانتها.

فلأبناء شعبي أقول: درسنا اليوم ليس عن تقدم أم تدهور أمريكا، إنما درسنا هو التعلم و استنساخ نجاح ثورة السود في الخمسينيات و الستينيات. و دعنا ندع الاعتماد على غيرنا جانبًا فلا نفرح لسقوط نظام أو نعتمد على صعود آخر. و دعنا نتعلم من إخواننا السود ونضالهم في أمريكا. من قادتهم المتعلمة و الواعية و المخلصة لأهداف شارعها. و لفعالية و حراك نشطائها مع شارعهم الصابر و الفارض على قادته عدم التسوية و إتمام المسار لتلبية أهدافه. دعنا نتعلم حب و إخلاص و تضحية ذلك الشعب. فلنجاح ثورته ربحٌ و نموٌ لبلاده. فقط وقتها تولد لنا روزا باركس جديدة لتشعل فتيل ثورة صادقة و ناجحة لتغيير و تحسين مسار بلادنا.

كتب بواسطة
نائل فرسخ
عرض جميع المقالات
كتب بواسطة نائل فرسخ

الكاتب

نائل فرسخ

التحق بنا