عندما أنطق، يفسر كلامي بالأجنبي. و عندما أكتب لأسند و أدعم آرائي، التي تنبض بعروبة أفكاري، يتذمر البعض من طول مقالي. فقد احترت في خطابي مع إخوتي و أخواتي. لذلك، دعني أجزئ مقالاتي و أختصر بقدر الإمكان تحليلاتي عن حاضر و مستقبل بلادنا لاستقطاب القارئ. فالهدف مع ختام سلسلة مقالاتي المتتالية هو استنتاج استراتيجية بنَّاءة و نهج واضح لتحسين وضع بلادنا.
فدعنا نسلط الأضواء لهجرة العربي إلى البلاد العربية الأخرى. و للتعمق في تفاصيل ذلك الأمر، سوف نخصص الحديث اليوم بشأن تجنيس العربي في تلك البلاد. إنه موضوع حساس عند البعض و خيانة عند آخرين و دلالة طمع عند نفر آخر. ولكن قبل أن نتطرق لأسباب رغبة بعض العرب في الجنسيات العربية الأخرى، دعنا نقلب الحديث على عواهنه، ونحلل أولًا إيجابيات و سلبيات التجنيس عند الدول المتقدمة. خاصة و أن العديد من شبابنا و شاباتنا العرب المتمكنين في مجالاتهم إن لم يجدوا بلداً عربياً يتبناهم و ينمي قدراتهم هاجروا و تجنسوا في بلدٍ أجنبيٍ استقطبهم و حضنهم.
فالثابت تاريخياً أنه كلما تقدم و ازدهر البلد كلما زاد انفتاحه. فأي بلد متقدم على علم عقائدي بأن تقدمه المستقبلي رهنُ موارده و إمكانياته. و على أي بلد ساعٍ في تقدم فعلي أن ينمي صناعاته من الصناعات التحويلية الأولية إلى الصناعات المتطورة الناضجة. و كما تستهلك المواد الخام المحلية مع نمو البلد و يُتطلب استيراد مواد خام من الخارج لإبقاء نمو و ازدهار تلك الصناعات؛ تُستهلك أيضاً العقول و الأيادي المحلية. لذلك يصبح لازمًا استيراد طاقات بشرية خارجية لضمان نمو البلد و الحفاظ على تقدمه و رفاهيته. فبلد النمو لا يهدف لهجرة أو تجنيس سكان جدد على حساب رفاهية سكانه الأصليين. بل على عكس ذلك، إنما هدفه تطوير حاله و زيادة معدل دخل مواطنيه عما كان عليه. وقتها نلاحظ نقلة نوعية و تحولاً جذرياً في استقطاب الهجرة للبلد الراغب في زيادة رفاهيته باستمرار نموه التصاعدي لمنافسة الأسواق العالمية و الدول المتقدمة. و يصبح التجنيس والمساواة بين عامة الشعب، المحلي و المتجنس، ضرورياً لجذب أفضل ما يمكن استقطابه عالميًا. لأن تلك البلدان على يقينٍ واضح بأن أفضل العقول لا تهاجر فقط لأجل مالٍ أو معيشة طيبة فحسب و إنما هي تسعى لوطن جديد يحتضنها و ينمي أولادها.
أما بالنسبة لسلبيات التجنيس، فكثيراً ما نسمع عن سلب المواطنين الجدد لموارد البلاد و وظائف و رفاهية السكان الأصليين. كما تردد مقولة الكثير من المحافظين عن عدم كامل إنتماء المواطنين الجدد لبلد جنسيتهم الجديدة و خطورة ذلك على سلام وأمن البلاد. و إن كان في ظاهر تلك الأقوال ما يوحي بصدقها، إلا أنه مع التمعن يمكن استنتاج نواقصها و تناقضاتها: أولاً، إن رفاهية الشعب الأصلي، على حد ذلك التعبير، لا يمكن استمرارها دون نمو البلد. و تقدم البلد رهن موارده المحدودة و استنزافها مع مرور الزمن. و لذلك يصبح بحاجة لاستقطاب عقول خارجية لإبقاء ذلك النمو و تلك الرفاهية من خلال الإبداع و تطوير الصناعات. و الثابت تاريخياً أن مصلحة و ضمانات و معدل دخل المواطن في البلاد المتقدمة يرتفع مع نمو البلد المعتمد اعتماداً جوهرياً عل العقول و الأيادي المجنسة. فعدا الفائدة المباشرة من توظيف تلك العقول و الأيادي في نمو البلد، إلا أن عوائد التجنيس الغير مباشرة تسهم إسهاماً فعالاً في رفع مستوى معيشة سكانه. فالمجنس المطمئن من وضعه و بقاء أولاده من بعده يلقي بولائه التام لوطنه الجديد و ينفق و يستثمر جهده و ماله في ذلك الوطن على خلاف الوافد المغترب الذي يحول أمواله و استثماراته و حتى تعمير بيت لتقاعده إلى موطنه الميلادي بعيداً عن إفادة موطن إقامته. و ثانياً، عندما تكون وظائف و رفاهية الشعب المحلي زائلة مع العقول الوافدة، فتلك إشارة تنبيه لعدم تماشي بعض العقول المحلية لمجالات عملها. إما أن تلك العقول توظف في المجال الخاطئ أو لا تملك الخبرة الملائمة لعملها أو تكلفتها لا تتناسب مع متطلبات الوظيفة. و في جميع تلك الحالات، تشكل تلك العقول المحلية الموظَّفة في المجالات الغير مناسبة حاجزاً لتقدم ذلك البلد. فإن استحال لتلك العقول المحلية منافسة العقول الوافدة في مجالات اختصاصها وهي في حضن بلدها فكيف لها أن تنافس جميع عقول الأسواق و الحضارات عالمياً؟ و ثالثاً، و من ناحية أمن و استقرار البلاد، أليست متطلبات حماية بلد في نمو متصاعد أشد صرامةً من متطلبات الأمس؟ فبلد النمو يلفت انتباه جيرانه و أعدائه لاحتكار موارده و أسواقه. لذلك، يصبح من الضروري إنماء جيشه و دفاعاته باستقطاب أيدٍ مجنسة تزيد من تعداد سكان بلاده. ورغم أن بعضاً من تلك الأيادي لن يُنزع انتماؤها لموطن ميلادها، إلا أن الغالبية الساحقة التي هاجرت بحثاً عن موطن جديد ترنو إليه لن تفرط أبداً بوطن الأحلام الذي احتضنها و أكرم أولادها.
و هكذا، مع استقطاب العقول و تجنيسها ينفتح البلد و تزدهر ثقافته و ينمو اقتصاده و تقوى جيوشه و تنافس صناعاته الأسواق العالمية. وقد يكون أفضل مثال في تاريخنا المعاصر هو تجربة الولايات المتحدة الأمريكية في تجنيس عقول و أيادي و كفاءات العالم أجمع التي ساهمت في بناء ذلك البلد و تسلمه هرم السيطرة ليس فقط على الأسواق العالمية فحسب و إنما على مقدرات العالم بأسره. و البرهان واضح في نسبة و تعداد العلماء و المخترعين و التجار و العمال في ذلك البلد من المجنسين. حيث أن معدل المجنسين من سكانها يتراوح سنوياً منذ عام 1950 إلى اليوم، ما بين 5٪ و 13٪ من تعداد السكان [1^]. بما في ذلك وجود حوالي 20٪ من المتجنسين من أساتذة المدارس للصفوف العليا [3] و قرابة 10٪ من اجمالي الباحثين الجامعيين [3]. و تلك النسب تتصاعد جذرياً بالنسبة لمواد العلوم و الرياضيات. و رغم ذلك، لم تفقد الولايات المتحدة الأمريكية طابعها أو هوية سكانها. و إذا قارنا متوسط دخل الفرد عام 1960 في الولايات المتحدة الأمريكية و أخذنا في الاعتبار التضخم المالي حتى سنة 2016، نجد أن متوسط دخل الفرد تزايد بحدود 277٪ في خلال تلك السنوات على عكس ما قد يدعيه معارضو التجنيس في ذلك البلد. ففي عام 1950 كان متوسط دخل الفرد يعادل 14،490 دولاراً بقيمة اليوم مقارنة بعام 2016 حيث ازداد متوسط دخل الفرد إلى 54،640 دولاراً محسناً حال جميع أفراد ذلك البلد [4]. و اللافت للنظر أيضاً أن قرابة 20٪ من جنود جيش الولايات المتحدة الأمريكية عند بدء الحرب العالمية الثانية كان مكوناً من مجنسين جدد. قاتلوا كتفاً لكتف بجوار اخوتهم على عكس ما قد ينسب لولاء أولائك المجنسين. ولولا استقطاب هؤلاء وتجنيسهم لما نما الإبداع و الصناعة و الجيش، وعندما وضعت الحرب أوزارها تحول ذلك البلد إلى المنتصر و المهيمن الفعلي على العالم. و حتى يومنا هذا، يمثل المجنسين ٥٪ من جنود ذلك البلد [5]. و لذلك نلاحظ اليوم أن جميع الدول المتقدمة، و دون استثناء، لا تؤمن فقط باستقطاب الهجرة للعقول و الأيدي العاملة فحسب و إنما توفر سبلاً لتوطين وافديها لضمان بقائهم و إبقاء ازدهار و نمو البلد.
أما بالنسبة لأسباب لجوء شعبنا العربي لوطن عربي آخر، فأظنها غنية عن التعريف. فليس هناك عربي حي لا يدرك سبب هجرة سكان مولده. و في يقيني أن من يهاجر منهم لبلد عربي آخر بدل الهجرة لوطن أجنبي، إنما هو لانتماء وطني أو لقرب صلة أو لعدم توفر امكانيات تسمح بهجرةٍ لوطن آخر. و كما أن هناك فوائد لأي وطن يستقطب العقول و العاملين، إلا أن فائدة توطين أكفأ تلك العناصر البشرية سوف تسهم في نمو ذلك البلد أضعافاً مضاعفة مقارنة بإبقائهم كوافدين مغتربين في بلد عربي. لأنه لعدم تجنيس أكفأ تلك العقول، يتحول ذلك البلد العربي في كثير من الحالات إلى محطة ترانزيت تمهد الطريق لهجرة تلك العقول إلى الدول الأجنبية التي مازالت تتسارع في استقطاب تلك الكفاءات. فصحيح أن بعض تلك العقول لن تتغرب لحسٍ و طنيٍ و لكن ذلك الحاجز العقائدي لن يقف أمام هجرة أولاد و أحفاد أولئك الفاضلين. كما أن الهجرة للخارج سوف تتضاعف لمن لم تكن لديهم امكانيات السفر حيثما توفرت لديهم سبل الهجرة. و مع مرور الزمن، تُجرد دولنا العربيه من أكفأ عقول و سواعد وطننا و أخلص مواطنيها. ممهدة الطريق لنمو منافسيها و حتمية بطء ثم توقف ثم تدهور نموها. و هكذا يستفيد المنافس الأجنبي من كفاءات الإخوة على حساب الوطن العربي. فأنا على يقين بأن ما أتحدث عنه إنما هو خطوط حمراء عند البعض أو قد يفسر بطمع عند آخرين. حيث أن هجرة العرب عادة تكون أحادية الاتجاه من البلدان العربية الفقيرة و المزعزعة إلى البلدان العربية الغنية و الأكثر استقراراً. و هنا لا أخص بالذكر الدول العربية الغنية فقط لاستقطابها عقول عربية، بل حديثي لجميع الدول العربية لتجنيس وافديهم العرب اللأكفاء من العالم إلى الطبيب إلى المدرس إلى الفلاح . كما أنني أتحدث لمكانة و محبة الوطن العربي لوجداني و ضيقٍ لنزيف بلادنا من هجرة أكفأ أولادنا لتعمير بلاد غيرنا. فتلك خسارة بلد مولد ذاك العربي كما هي خسارة البلدالعربي الذي كان بإمكانه استقطابه و إبقائه في موطنه الجديد. فأليس من الأولى وضع تلك الخطوط الحمراء لشلال هجرة أكفأ أولادنا؟
[1]: المجنسين في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1950: U.S. Census Bureau, “Historical Census Statistics on the Foreign-Born Population of the United States: 1850-200” and Pew Center tabulations of 2010-2018 American Community Survey (IPUMS)
[2]: أساتذة المدارس للصفوف العليا في الولايات المتحدة الأمريكية: IIR Analysis of the American Community Survey (ACS) 2012 – 2016 5-year sample from the integrated Public Use Microdata Sample (IPUMS-USA) file
[3]: الباحثين الجامعيين في الولايات المتحدة الأمريكية (مصدرين لحساب النسبة): IES NCES National Center for Education Statistics (https://nces.ed.gov/fastfacts/display.asp?id=61#:~:text=In%20fall%202017%2C%20of%20the,adjunct%20professors%2C%20and%20interim%20professors.)
New York Times: More Foreign-Born Scholars Lead U.S. Universities By Lisa W. Foderaro on March 9, 2011
[4]: متوسط دخل الفرد منذ عام 1960 إلى 2016 في الولايات المتحدة الأمريكية: U.S. Real gross domestic product per capita: https://fred.stlouisfed.org/series/A939RX0Q048SBEA
[5]: جنود جيش الولايات المتحدة الأمريكية عند بدء الحرب العالمية الثانية إلى 2018 The Immigrant Army: Immigrant Service Members in World War (https://www.uscis.gov/about-us/our-history/history-office-and-library/featured-stories-from-the-uscis-history-office-and-library/the-immigrant-army-immigrant-service-members-in-world-war-i#:~:text=Foreign%2Dborn%20soldiers%20composed%20over,patriotism%20for%20their%20new%20country.)
U.S. Census Bureau, “Historical Census Statistics on the Foreign-Born Population of the United States: 1850-200” and Pew Center tabulations of 2010-2018 American Community Survey (IPUMS)