• بحث
  • استرجاع كلمة المرور؟

دعنا نطمع بالمزيد!

احترت من أين أبدأ. فبلد مولدي له محبة و مكانة خاصة في قلبي. ففيه تربيت و تعلمت و كونت أحلى ذكريات طفولتي و شبابي. و فيه تعلمت معنى الانتماء لبلد أعتبره بلدي ،بكل دلالات تلك الكلمة، حيث أنه احتضنني و تبناني كواحد من ابنائه. و له عُدت بعد إتمام دراستي و اختصاصي لأربي أولادي في حضنه كما تربيت، ليربوا هم أولادهم من بعدي. فله أقدم كل ماعندي، فهو بلدي. و من قُدوته استوحيت و آمنت بوحدة الوطن العربي. فهو مازال البلد العربي الوحيد في عصرنا الحديث الذي تمكن من توحيد و إبقاء اتحاده لسبع كيانات عربية. و بذلك قدم للعالم العربي، و العالم أجمع، أنموذجاً لما يمكن تحقيقه عربياً من خلال وحدته. فهو منذ البدء، كانت لديه الرؤية والبديهة ليفقه أن تلك السبع إمارات المنفصلة لن تحقق أبداً ما يمكن إنجازه إلا باتحادهم.

و اليوم و أنا أذكر ما تعلمت من مدارس بلادنا و عن أهمية الوحدة العربية أتعجب من طول الطريق المتبقي لتحقيق ذلك الهدف النبيل. فوطننا العربي مازال مفرقاً مع العلم بأن أقطاره و بلدانه المنفصلة تاريخياً و حاضراً لا يمكنها منافسة دول حاضرها العظمى كونها لا تملك جميع المكونات لإنشاء البلد الحر و القوي و المكتفي ذاتياً. فليس هناك بلد أو قطر عربي بذاته يملك كامل المقومات من ناحية الموارد الخام و الأرض الزراعية و المياه العذبة و اليد العاملة و الثقافة و العلم وحتى قوة السلاح و الجيش للحفاظ على حدوده و سيادة أراضيه. فمناطق الخليج العربي، كمثال، غنية بموارد البترول و الغاز الطبيعي و لكنها تفتقر الأراضي الزراعية و اليد العاملة. و مناطق الهلال الخصيب غنية بالأراضي الزراعية و المياه العذبة و الأخصائيين و لكنها بحاجه لليد العاملة. و مناطق مصر غنية باليد العاملة و عدد السكان لبنية الجيش و لكنها تفتقر السيولة المالية. أما مناطق السودان فهي غنية بالأراضي الزراعية و الثروة الحيوانية لإطعام كامل الوطن العربي و لكنها أيضاً بحاجة ماسة لسيولة مالية. و أخيراً، مناطق المغرب العربي غنية بالمواد الخام بما في ذلك البترول و الغاز الطبيعي و لكنها تفتقر الثروة الحيوانية. عدا أن لانفصال الدول العربية تأثيره السلبي لعدم الاستفادة من عدة عوامل مثل نمو الصناعة و توسيع الأسواق المحلية و زيادة السياحه الداخلية و وحدة الجيش و رفع فعالية الموانئ العربية التي تطل على البلاد الأسيوية و الإفريقية و الأوروبية . أضف إلى ذلك، خسارة العديد من عقول الوطن العربي التي تهاجر سنوياً إلى الخارج لعدم سهولة انتمائهم لبلد عربي آخر كان بإمكانه أن يحتضنهم و يستفيد من كفاءاتهم. كذلك تتحول بلادنا العربية من مستوردة و مستهلكة إلى منتجة و مصدرة. فعلى سبيل المثال، إن نظرنا في تصنيف موارد الدول العربية المنفصلة اليوم، سنجد أن أفضلها تحتل المراكز التالية عالمياً: الثانية (٢) من خلال السعودية في الاحتياطي النفطي، و السابعة (٧) من خلال السودان في الثروة الحيوانية، و الثالثة و السبعين (٧٣) من خلال العراق في المياه العذبة، و الرابع عشر (١٤) من خلال مصر في تعداد السكان، و التاسع عشر (١٩) من خلال مصر في زراعة القمح، و أخيراً الحادي عشر (١١) من خلال مصر في تعدادالجنود. و إن قارنا مركز الدول العربية المتحدة لتلك الموارد عالمياً لوجدنا التالي: الأولى (١) في الاحتياطي النفطي، و الرابعة (٤) في الثروة الحيوانية، و الخامسة والثلاثين (٣٥) في المياه العذبة، و الثالثة (٣) في تعداد السكان، و الثانية عشرة (١٢) في زراعة القمح، و أخيراً الخامسة (٥) في تعدادالجنود. ذلك كله يجعل مكانة مقومات الدول العربية المتحدة تضاهي الدول العظمى. هذا لا يعني أن الوطن العربي سيصبح دولة عظمى صباح اتحاده، و لكن ذلك سوف يؤدي إلى تصاعد سريع و ملحوظ في تقدم الأمة و نهوضها و منافستها عالمياً. و الواضح اليوم أن لتفاوت تلك المكونات بين البلدان و الأقطار العربية خلق تبايناً بين بلد عربي و آخر من ناحية الاقتصاد و الازدهار و الثقافة والحريات. و كون بلدان الوطن العربي لم تخطُ بحزم تجاه وحدة تتمم امكانياتها و تعزز اسواقها و تستفيد من عقولها و موانئها، توجهت جميع البلدان العربية بتحرك أحادي أو قطري الهدف لتكمل تلك النواقص. فجغرافية المنطقة توضح ذلك.

فنحن اليوم نعيش كما كنا في أيام ما قبل نزول القرآن الكريم و وحدة الأمة العربية، عدة بلدان و أقطار مفرقة، لا طابع مستقل لها، ولكن ذات سياسة منفردة و محلية. فرغم أن البلاد العربية كانت تعيش اختلافا ملحوظاً و متضارباً من الناحية الاقتصادية والحضارية و حتى الاستقلالية، إلا أن الرسالة الإسلامية لجأت لوحدة الأمة العربية. فالرسالة الإسلامية لم تأتِ كديانة فحسب وإنما أتت كأيديولوجية عربية سندت الإسلام باللغة و توحيد الأمة العربية، على خلاف دياناتها. و دعم الإسلام لغة القرآن الكريم، التي اتفق الفقهاء على عدم جواز ترجمتها، ليحفظ مكانتها لأهميتها في توحيد جميع الأقطار العربية حاضراً و مستقبلاً. فمنذ فجر الإسلام في الجزيرة العربية كان التطلع إلى مصر و بلاد الشام و باقي المناطق العربية لتدعيم الرسالة بوحدة الأمة العربية واستقلال المنطقة من سيطرة الامبراطوريتين الفارسية و الرومانية. فرغم سيطرة كل من الامبراطورية الفارسية و اليونانية و الرومانية على عدة أقطار عربية قرابة ألف عام، إلا أن شعوب تلك المناطق، على خلاف أديانها، لم تندمج مع تلك الامبراطوريات كما اندمجت مع الفتح العربي الإسلامي. و الواضح تاريخياً، أن الفتح الإسلامي كان غازياً في نظر شعوب الفرس و الأوروبيين بينما كان محرراً في نظر الشعوب العربية ما بين مناطق الهلال الخصيب و شواطئ المحيط الأطلسي. فإن لم يكن كذلك، لتحدثت بالعربية اليوم كل من بلاد الفرس و جنوب أوروبا التي كانت تحت سيطرة الفتح الإسلامي. و لذلك، لجأت الرسالة الإسلامية منذ بروزها لوحدة الأمة العربية لدعمها لِما وجدت فيها من مكونات الوطن الواحد؛ من لسان و تاريخ و ثقافة واحدة و حسِّ شعب واحد يحن لنيل حريته و استقلاله. و تاريخ المنطقة يثبت ذلك.

و التاريخ مليء أيضاً بإنجازات عدة بلدان و نهوض امبراطورياتهم بسبب وحدتهم. ألم تتصارع ممالك و حكومات الصين و دخلت في حروب داخلية إلى أن نالت وحدتها واستقرارها و تحررت من سياساتها الانفصالية؛ و وقتها فقط ولدت امبراطوريتها؟ ألم تتصارع كل من شعوب فرنسا و المانيا و دخلت في ثوراتها الداخلية أيضا إلى أن توحدت و حصَّلت حرية شعبها و ولدت امبراطوريتها هي الأخرى؟ ألم تتصارع الولايات المنفصلة الأمريكية و تدخلت كل من بريطانيا و فرنسا و هولندا لتستفيد من ذاك الصراع إلى أن توحدت تلك الولايات و تخلصت من ذلك النفوذ ثم أنشأت هي أيضاً امبراطوريتها الحديثة؟ و الثابت تاريخياً، أن جميع تلك البلدان لم تكن في عز تخلفها قبل وحدتها كما كان يُتصور، بل كانت في وقت بدء نهوضها و تقدمها و لذلك لجأت لوحدتها. و لكن رغم ذلك كله سميت حقبة ما قبل وحدة وازدهار تلك البلدان بالعقود الوسطى أو العصور المظلمة أو الجاهلية.

لذلك، دعنا نعود لحديث اليوم عن تبعات التحالف مع الشرق أو الغرب، و الذي هو متوقع في وقتنا الراهن حيث أنه يتناسب مع واقع بلادنا العربية المنفردة و القطرية. ولكن دعنا ننمي الحديث مستفيدين من دروس التاريخ و جغرافية المنطقة لرفع مستوى أهدفنا للإسراع في نمو بلادنا و سمو مكانتنا. فرغم تقدم غالبية، إن لم يكن جميع، البلدان العربية عما كانت عليه في بداية القرن السابق، إلا أن انطلاق نهضتنا و استكمال مكوناتنا لإحياء عظمة أمتنا،التي لا خجل في المطالبة بها، لن يتحقق دون وحدتنا. لأن رغم أي محاسن مستنتجه من أحد الحلفين و مساوئ الآخر، التاريخ يؤكد أن أياً من الحلفاء لن يسمح في وحدة البلاد العربية و نموها. و إنما همهما الأول و الأخير، وهما لا يلامان على ذلك، هو السيطرة على المنطقة و الوقوف أمام الوحدة العربية لضمان استقرار عظمتهما على حساب سلام و استقرار و إنشاء وحدة وطننا العربي. فالتاريخ و جغرافية المنطقة تؤكد ذلك.

قد تقول أنت تحلم يا أخي! و لكن، ما الخطأ في ذلك؟ ألم تحلم كل من امبراطوريات الفرس و الروم و الصين و أمريكا؟ ألم يكن لنا نحن امبراطوريتنا الخاصة بنا التي اسقطت بعضاً من تلك الامبراطوريات السابقة؟ ألم نكن من رواد العلوم و الحريات و الحضارات؟ ألا يعيد التاريخ نفسه؟ و مقارنةً بوضعنا في بداية القرن السابق ألا نرى تطوراً ملحوظاً في التعليم و الاقتصاد و حرية البلاد و خاصة وضع المرأة العربية حيث أنها اليوم عامل فعال في تقدم البلدان؟ ألا نملك مكونات أعظم الامبراطوريات من لغة و تاريخ و جغرافيا و موارد بشرية و طبيعية؟ فلماذا نحط من قدر أنفسنا؟ و لماذا لا نتمم انجازاتنا؟ و لماذا نكتفي بوحدة تلك الإمارات السبع بدل المضي بوحدة البلاد جميعها؟ و لماذا لا نعظم من أهدافنا و لا نحلم ببناء وحدتنا و دولتنا العظمى؟ أرضينا بما أحرزنا؟ ألا نستحق منافسة امبراطوريات عصرنا؟ فلا خجل، بل هو واجبنا، بأن نطمع بوحدتنا و فرض مكانتنا. فقط وقتها ينال وطننا النهوض و الاستقرار الذي جميعنا يرنو إليه و يعيش شعبنا في عز و رفاهية و ازدهار؛كما كنا في وقت ما بعد الجاهلية.

لذلك، دعنا نطمع بالمزيد!

كتب بواسطة
نائل فرسخ
عرض جميع المقالات
كتب بواسطة نائل فرسخ

الكاتب

نائل فرسخ

التحق بنا