اليوم يدور الحديث عن الانتخابات الأمريكية و من هو الفائز الفعلي في تلك الانتخابات. ورغم إجماع المحللين على أن بايدن سوف يتولى رئاسة الولايات المتحدة استناداً لتاريخ الخلافات لنتائج الانتخابات الأمريكية إلا أن هنالك صدام بين هؤلاء حول من هم الفائزون. فمن طرفٍ، ينظر البعض إلى نجاح بايدن و زيادة صوت على الأقل للحزب الديمقراطي في مجلس الشيوخ و إبقاء مجلس النواب تحت سيطرتهم كدليل قاطع لنجاح الحزب الديمقراطي. أضف إلى ذلك إرجاع كل من ويسكونسن و ميتشيغان و بنسيلفانيا إلى الصف الديمقراطي و زيادة كل من أريزونا و جورجيا المحافظتين تاريخياً إلى ذلك الصف. بالمقابل، يتباهى الحزب الجمهوري بانتخاب أكثر من 70 مليون أمريكي لترامب و تثبيت العديد من ولايات الغرب و استرجاع العديد من مقاعد مجلس النواب. أزد على ذلك، تمهيد الأمريكيين من الاصول اللاتينية لنجاح ترامب في فلوريدا بسبب استقطابه لهم. و يتصور أصحاب تلك المقولة بداية هيمنة ذلك الحزب حيث أن قاعدته تبلورت لتشمل الأقليات اللاتينية و الغير بيضاء لأول مرة في تاريخها المعاصر. و كما يختلف المحللون الأمريكيون حول من هم الفائزون الفعليون في تلك الانتخابات، يختلف أيضًا باقي المحللين الشرقيين و الغربيين والعرب حول تلك النتائج وعواقبها على بلدانهم. فالبعض يؤمن بأهمية تلك الانتخابات ليس فقط محليًا ولكن أيضًا عالمياً. فخير خلاصة لعقيدتهم قد تكون ما قالته صديقة زوجتي البولندية: أنه من الأصح أن ينتخب العالم أجمع الرئيس الأمريكي، حيث إن هذه الانتخابات لا تؤثر فقط على الشعب الأمريكي فحسب وإنما تهم العالم بأسره.
ولكن قبل أن ننظر لمن هو الفائز الفعلي لتلك الانتخابات و ما هي عواقب تلك النتيجة على البلاد العربية، دعنا نبدأ بنظرة موجزة إلى التغيرات في الأصوات الانتخابية في تاريخ أمريكا المعاصر و وضع أمريكا اليوم الذي هيأ الجو لتلك الظروف.
العديد من الأمريكيين اليوم يشعرون بأن أمريكا تعاني من انفصام في الشخصية. فبنظر العديد، الشارع الأمريكي اليوم يزداد تطرفًا. إمامحافظًا يلقي بولائه للحزب الجمهوري أو متحررًا يرى خلاصه مع سياسة الحزب الديمقراطي. وبعض من أفراد كل من الطرفين يريد استدراج حزبه إما لأقصى اليمين أو أقصى اليسار. ورغم أن غالبية المجتمع الأمريكي، كباقي مجتمعات العالم، ينتمي إلى الوسط إلا أنه يميل إما وسطًا يمينيًا أو وسطًا يساريًا. ولذلك يتحرك هذا الوسط، وقت الانتخابات الامريكية، إما يمينًا مع الجمهوريين أو يسارًا مع الديمقراطيين. وإن تصور بعضهم أن الديمقراطيين يزدادون توجهًا إلى اليسار المتحرر يصوت هؤلاء مع الجمهوريين. و إن تصور هؤلاء أن الجمهوريين يزدادون توجهاً إلى اليمين المحافظ صوتوا مع الديمقراطيين. كما حدث في انتخابات 2016 و 2020 حيث صوتت كل من ولاية أوهايو و أيوا لترامب رغم تصويت كل من تلك الولايتين لأوباما في انتخابات 2008 و2012 على التوالي. والثابت أيضًا في أمريكا، كالعديد من دول العالم، أن المدن الكبرى عادة تصوت وسطًا يساريًا أو لأقصى اليسار. كما إن القرى و الريف تصوت عادة للوسط اليميني أو أقصى اليمين. و بسبب مقومات الرأسمالية الأمريكية و أولوياتها المالية وسياسة عولمة شركاتها اتجهت صناعتها إلى بلدان أخرى في أواخر السبعينيات. حيث وجدت اليد العاملة الرخيصة و الحقوق العمالية المتدنية و الضرائب المنخفضة. ففي أواخر السبعينيات و أوائل الثمانينيات قام البنك المركزي الأمريكي بزيادة مستمرة للفوائد إلى أن وصلت أعلاها 20٪ عام 1980 ليقلل من التضخم الذي ورَّثته سياسة نكسون عندما فصل الدولار من ودائع الذهب. تلك السياسة فتحت المجال لاستقطاب الأموال و السلع الأجنبية و تدهور قيمة الدولار الأمريكي. مما وفَّر الفرصة للصناعات الأجنبية و خاصة اليابانية لمنافسة السلع الأمريكية في أراضيها. حيث باتت منتوجات تلك الصناعات المتطورة الأجنبية المستوردة أرخص في بعض الأحيان من السلع المحلية. مما أدى لتحول جذري في تركيبة المدن و الريف للعديد من الولايات المصنِّعة. خاصة في ولايات الحزام الصناعي كما سميت سابقًا، المكونة من بنسيلفانيا و أوهايو و إنديانا و ميتشيغان و ويسكونسن. وهكذا تدهورت مدن تلك الولايات و تحولت تسمية ذلك الحزام إلى الحزام الصدئ في أوائل الثمانينيات وحتى يومنا الحالي. و منذ ذلك الوقت و تعداد سكان كبرى مدن تلك الولايات في انكماش مستمر. فكل من سكان فيلادلفيا و ديترويت و كليفلاند و ميلواكي في انخفاض مستمر من-1.7% و -17.1% و -6.8% و -2.3% على التوالي لعام 2010. و مازالت تلك المدن في انخفاض سلبي باستثناء نمو سكان فيلادلفيا البسيط قرابة 0.4% لعام 2018. مقارنة لنمو المدن الكبرى لبعض الولايات الجنوبية التي لا تعتمد اعتماداً أولياً على الصناعة مثل أوستين في ولاية تكساس و أتلانتا في ولاية جورجيا وفينكس في ولاية أريزونا. حيث نمو سكان تلك المدن في تزايد مستمر منذ عام 2012 حتى يومنا الحالي. و لعام 2012 ازداد عدد سكان كل من أوستن و أتلانتا و جورجيا قرابة 2.1% و 3.1% و 2.3% على التوالي. و مع زيادة السكان في تلك المدن وارتفاع التكلفة المعيشية الموازية لتلك الزيادة، توجه بعض سكان هذه المدن إلى القرى المجاورة. ولذلك نرى اليوم تحولًا جذريًا في التكوين السياسي لشعوب تلك الولايات. حيث فيضانات الديمقراطيين في تلك المدن بدأ يتدفق إلى القرى المجاورة. و بينما أصبحت بعض الولايات الشمالية للحزام الصدئ تميل يمينًا مع تدهور مدنها واكبها ميل يساري في بعض من ولايات الجنوب الناهضة.
و هنا يجب التمعن لنجاح ترامب والجمهوريين في استقطاب جمهورهم. فرغم خلافنا مع أخلاق و سياسة ترامب إلا أننا يجب أن نتفهم التفاف شعوب تلك الولايات المتدهورة لسياسته الداخلية وتحريك عاطفتهم لمقولته: “دعنا نجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”. كما يجب استيعاب تحرك جورجيا و أريزونا إلى الصف الديمقراطي بسبب تدفق مواطني الولايات المجاورة إلى مدن تلك الولايات النامية. و في يقيننا أن نجاح الديمقراطيين في جورجيا و أريزونا سوف يتعاظم مع الزمن. و نحن لا نستبعد زيادة تكساس إلى صف ذلك الحزب. و لكن إن لم تتغير سياسة أمريكا لمساندة و استقطاب الصناعة المحلية، سوف يوازي نمو القاعدة الديمقراطية في الجنوب الأمريكي نمواً للقاعدة الجمهورية في الشمال الأمريكي ممثلًا في ولايات الحزام الصدئ. و في يقيننا إن الجمهوريين اليوم استوعبوا مغزى خطابات ترامب لأهل القرى والريف في تحريك عواطفهم و أصواتهم، رغم أن تلك الخطابات لم تتعدى كونها دعايات زائفة و دون أفعال. و تفهموا كيفية استقطاب مجموعة جديده من سكان البلاد. فرغم خلافنا مع ترامب كشخصية و سياسة إلا أن وصف جميع مؤيديه بالعنصريين و هم الآن يتجاوزون 70 مليون مواطن ليس فقط وصفاً خاطئاً فحسب و لكنه وصف مضلل أيضًا. فالعديد من الذين صوتوا لترامب عوضاً عن بايدن، لم يكن همهم الأول الضمانات الصحية أو الاجتماعية أو السياسة الخارجية أو حتى العلاقات الإثنية أو العرقية. إنما همومهم الأساسية، كباقي طبقات الشعوب العالمية المحرومة و التي تمثل قاعدة الجمهوريين، هي وضع الاقتصاد و حال الجريمة في البلاد و تجنيس الأجانب. حيث إن وضع الاقتصاد و الجريمة و التجنيس تعتبر مسائل مهمة جداً بالنسبة إلى 88٪ و 74٪ و 61٪ من أعضاء ذلك الحزب لهذه الانتخابات. فلأعضاء ذلك الحزب تدهور مدنهم مربوط بالصناعة التي انتقلت إلى المكسيك و البرازيل و غيرها. وسلامة ابنائهم في علاقة عكسية مع تفحش الجريمة في مدنهم. و تضاؤل دخلهم متصل بالخدمات التي انتقلت إلى الهند وشرق أوروبا. فرغم أهمية الضمان الصحي و حال فيروس الكورونا و العلاقات العرقية لأعضاء الحزب الديمقراطي بنسبة 84٪ و 82٪ و 76٪ على التوالي لهذا العام. إلا أن لقاعدة الحزب الجمهوري المكونة من العمال و الفلاحين و من دون الشهادات الجامعية فما أهمية ذلك لأولئك وهم يرون دخلهم في انخفاض مستمر و وظائفهم في تهديد متواصل. وكما استوعب الجمهوريون جمهورهم، يجب على الديمقراطيين استيعاب حال البلاد. و على كلا الحزبين التسابق لتعديل مساره الذي بدأ تدهوره منذ أواخر السبعينيات و بانت تراكماته في هذه الانتخابات. وليس بايدن أفضل من ترامب للشعب الأمريكي في هذا المجال. فأحدهما بائع ماكر و نصاب كثير الكلام والآخر ملك سياسي همه العرش. و كلاهما دون أفعال تذكر حول تطوير حال فقراء و عمال و فلاحين البلد و إعادة استقطاب صناعاته محليًا وتنمية طبقته الوسطى. و بسبب ذاك التدهور و ذلك الصدام الإيديولوجي رأينا أيضًا في هذه الانتخابات نهوض كل من أقصى اليمين وأقصى اليسار. حيث نهض اليمين المتطرف. و بدأنا لأول مرة في تاريخ أمريكا المعاصر نسمع علناً عن تداعيات لنهوض اشتراكي لحماية حقوق و ضمانات عمال و فلاحين و شعب ذلك البلد. و في يقيننا أن الفائز أو الخاسر الفعلي من هذه الانتخابات هو الشعب الأمريكي على خلاف أي من الحزبين فاز بالسلطة. فإن نهض هذا الشعب و أثر على سياسة حزبية تطورت البلد. فعليه بالعمل بموجب أمريكا أولاً داخليًا لتعليم سكانها و الاعتناء في صحتهم وإعادة بناء صناعاتها و مدنها و محو فقرها و عنصريتها. كما يتوجب عليه انفتاح أمريكا خارجيًا لاستقطاب عقول وسواعد العالم وإعادة بناء طبقتها الوسطى. وقتها يتوقف التدهور الأمريكي و تنمو البلد. غير ذلك، و رغم أن سيادة أمريكا لن تفنى بين يوم وليلة، إلا أنها ستبقى مستمرة في تدهور متواصل كما هو الحال منذ أواخر السبعينيات. ولذلك فالشعب الأمريكي اجمع يكون خاسرًا اليوم إن لم يحدِّث بايدن في سياسة حكومته الداخلية كما حدث كل من فرانكلين روزفلت وكندي من قبله. و هذا ما نتمناه للشعب الأمريكي كما نتمنى ذلك التقدم و التطور لجميع شعوب الإنسانية. و لعلنا أجمع نتعظ من حال ذلك البلد و سياسته في تدهوره أو تقدمه.
أما بالنسبة للدول العربية. فمع تدهور أمريكا يزداد اعتمادها على الخارج لحفظ مستوى معيشتها. وبالتالي يتفاقم استعبادها لموارد وسياسة دولنا لتعويض نفسها عن نواقصها الداخلية. و مع المزيد من التراجع و ضعف هيمنة أمريكا تحوم النسور الأخرى لتنهش من بلادنا. أما إن أعيدت نهضة أمريكا بسبب صدامها اليوم، فذلك سوف يزيد من قدراتها و فعاليتها. وقتها تحتاج أمريكا لمزيد من الموارد والأسواق الخارجية. وكون الرأسمالية البحتة هي سياستها، يتفاقم كذلك استعبادها لموارد و سياسة بلادنا الضعيفة و سهلة الهيمنة. و لذلك، لكل من نهوض و تدهور أمريكا الرأسمالية آثاره السلبية على بلادنا. وكما أن لنهوض أو تدهور أمريكا آثار سلبية لدولنا فلنجاح بايدن أو ترامب آثار سلبية مشابهة لا فارق بينها يذكر. فرغم اختلاف المنهج بين بايدن و ترامب إلا أن المؤسسة و الأهداف واحدة. فالجيش الأمريكي لم يخرج من العراق في ظل حكم بوش الابن كما لم يخرج في ظل أوباما. و معاهدة سلام مصر و الأردن وباقي الدول العربية مع الكيان الصهيوني وقعت تحت رعاية كارتر و كلينتون و ترامب على التوالي. و جميع هؤلاء لا ينتمون لحزب واحد يميل يمينًا أو يسارًا. و لذلك دعنا نوقف الجدل حول أي الحزبين أفضل أم أقل سوءًاً لشعبنا. و أي الحزبين بيده خلاصنا أو شتاتنا. وأي الحزبين صديقنا أو عدونا. فدعنا نطور بلادنا و نمتلك زمام أمورنا و نتحرر من تبعياتنا. ودعنا نحقق ديمقراطيتنا و ننوع أحزابنا. و دعنا نتقبل اختلاف آرائنا و أقوالنا و أقلامنا وايديولوجياتنا. و قتها نستمع و نستجيب لمطالب شارعنا لنوقف تدهورنا؛ كما يتطلب ذلك من الأحزاب الأمريكية لإيقاف تدهورها. و ننهي رؤية العالم لنا بالضحية أو الفريسة التي تتسابق نسور الأمم لتنهش من جثمانها. فرغم استحالة الحكم على فائزي أو خاسري هذه الانتخابات على المدى البعيد للشعب و الأحزاب الأمريكية، إلا إن نتائجها حتمية لشعبنا. فعواقب هذه الانتخابات الأمريكية، و كل ما سبقها و كل ما سوف يليها، هي خسارة مؤكدة لشعبنا إن لم نطور بلادنا. عدا ذلك، نبقى نحن الخاسرين.