• بحث
  • استرجاع كلمة المرور؟

عُشاق الحياة الكريمة

قد لا يوجد عربي ترعرع على الثقافة العربية الكلاسيكية من لم يسمع عن عنترة بن شداد. عن شجاعته و بطولاته و إعتاق رقبته بسيفه. فسواء لبطولاته أم لأدبياته، تغنت أجيال بعنترة و إقدامه و أمثاله و أشعاره. و أكثر ما تغنوا به، هو شجاعته.

فحسب الرواية، أنه قيل لعنترة يوماً بأنه أشجع الناس و أشدها. فكان جوابه بأنه ليس كذلك. وعندما سُئل لماذا شاع بين الناس هذا القول عنه، كان رده: “كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزمًا، وأحجم إذا رأيت الإحجام حزمًا، ولا أدخل موضعًا لا أرى لي منه مخرجًا، وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع فأثنّي عليه فأقتله.”

فإن تمعنا بهذا الجواب، سواء كانت الرواية موثوقة أم لا، فليست الرواية كلام منزل، و لكن فيها عدة عبر تفيدنا اليوم.

أولاً، ليست الشجاعة التهور. فعنترة حسب الرواية لا يدخل صراعاً خسارته حتمية و لا يضع نفسه في محنة لا يمكنه الخروج منها. لذلك لم ينظر عنترة للشجاعة بالصورة الاستشهادية الرومانسية، بل نظر لها بالمنظور الجهادي الاستراتيجي. فالشجاعة حسب الرواية ليست الموت الحتمي، فذلك تهور ضد الفطرة. الشجاعة حسب الرواية تتمثل بنيل الحياة الكريمة بالفكر أولاً ثم القتال، و ذلك قد يتطلب الخروج من المأزق القتالي أحياناً بمحاربة الغزاة في ظروف أفضل. و ثانياً، لم ينظر عنترة للشجاعة بالصورة العاطفية الرومانتيكية، بل نظر لها بالمنظور العقلاني الواقعي. فقبل أن ينهال على القوي، يسفك دم الضعيف. لم يهمه ما قد تقوله عشيرته أو أعداؤه. لم يهمه إن قتله القوي، كيف ستروى سيرته بين القريب و البعيد؛ كهذا الذي تشاطر على الضعيف و سرعان ما قتله النِد حينما حاربه. بل كان عقلانياً واقعياً، قتل الضعيف قتلاً مبرحاً ليخيف القوي و يهزم نفسيته. ليعطي نفسه فرصة أفضل للنصر على النِد وقت الصراع.

هنا أريد أن أربط هذه الرواية بحال وطننا المعاصر و وضع شعبنا المقاوم و مقاومتنا المسلحة. و سوف أقلب بعض الأفكار و العقائد المعاصرة على أعقابها. ليس للتنكيل بالمقاومة الشعبية و المسلحة، و لكن لاسنادها في مجالها من خلال دراسة التاريخ و فطرة الإنسان، واجباً و تقديراً لتضحياتها. فلو أن كل ما ورثناه من آبائنا و أجدادنا لا يعيبه شىء لما كان حالنا اليوم كما هو عليه.

فلننظر أولاً لما يمكن استنتاجه كمنظور الشهادة عند عنترة. و لننظر لمنظور الشهادة في محيطنا و عصرنا الحالي. فتأويل العقيدة الإسلامية خاصة و عادات التراث العربي عامة تنظر إلى المستضعف القتيل على يد العدو الغاشم كشهيد، كما ينبغي أن يُنظر له من وجهة نظر أي مؤمن صادق و أي إنسان عادل. ولكن، يبدو لي أن نظرتنا اليوم للشهيد في كثير من الظروف تحولت من دافع تاريخي جهادي إلى رد فعل وظيفي تكبيلي، يثُلج نفس الضعيف لتقبُّلِ مأساةٍ أطعمه أياها القوي. و بذلك لا يُوفّى الشهيد عامةً و الشهيد المقاوم خاصةً حقه في سلوكنا. حيث واجبنا ليس فقط إحياء ذكره بل الانتقام لمقتله و إتمام مسيرته. فكثيراً ما نسمع شكراً لله لشهادة بناتنا. و نعمة الرب لشهادة أمهاتنا. و فردوسٍ أعلى لشهادة رفاقنا. و غالباً ما تلازم تلك التعازي، تذكير الجمع بأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها. و على قدر المصيبة يأتي الثواب. بل المصيبة كرم من الله يجازي به عبده. هكذا ظننَّا خطأً بأن تقبلنا القدر يكفي، و أن الشهادة هي الهدف، و تضحية الشهيد هي النهاية، و أن روح الإنسان لا قيمة لها في الدنيا و أن قيمتها في الآخرة فقط. مثلجين صدورنا متقبلين قدرنا عوضاً عن تفعيل غضبنا لثورتنا. ناسين أن الهدف الدنيوي ما هو إلا للحفاظ على روح الإنسان الغالية لحياة كريمة. و أن الجهاد ما هو إلا لنيل تلك الحياة العادلة. و أن حياة الإنسان الغالية لا تُقدم للشهادة إلا في آخر المطاف و ليس في أوله. فإن تمعنا في التاريخ لوجدنا أن محمداً عليه السلام عاش بعد الرسالة سنين عديدة في مكة و سنوات في المدينة. تقدر بثلاث عشرة سنة في مكة و عشراً في المدينة. و خلال هذه السنين استشهد البعض و عاش الأغلب. فهدف الرسالة ذو شقين، سماوي و دنيوي. لذلك جاءت الرسالة غير العقيدة كثورة تحريرية لمستضعفي الأرض في حياتهم. للموؤدة حياةٌ. للمرأة حقوقٌ. للعبد حريةٌ. للغني و الضعيف و الأسود و الأبيض مساواةٌ. وحتى بعد الممات للذرية إرثٌ. سلام مع قريش تارة للحفاظ على الأرواح و حرباً تارة لكرامة العيش بعد أن كبر الجمع و قويت الجماعة. قدمت الرسالة شهداء و لكنها لم تكن استشهادية رومانسية. فقد كان عدوها في مكة معروفاً. و خسارتها على سبيل المثال في غزوة أحد مُدونة. و مقتل حمزة عم الرسول عليهما السلام طالما ورد في الحديث عن غزوة أُحد. ولكننا نادراً ما سمعنا عن شكر محمد لربه لشهادة حمزة، عليهما السلام. و نعمة الله على مقتله. و تذكيره عليه السلام الجمع بخصوص مقتل حمزة بأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها. و على قدر المصيبة يأتي الثواب. بل، إن ذُكر الحدث و ذُكر مقتل حمزة، ذُكر حزن النبي عليه السلام لوفاة عمه الحبيب. و ذُكر اهتمام النبي لألا يبدو المسلمون ضعفاء بعد أُحد. و ذكرت أخطاء غزوة أحد و كيف خُطط لتفاديها في الحروب التي تلت. فشهادة حمزة و اخوانه المجاهدون عليهم الرضى فُعلت كحافزٍ لإتمام مسيرتهم و للانتقام لمقتلهم و لإحراز انتصارات متتالية. بذلك استوفت الرسالة لروح حمزة الغالية و باقي أرواح شهداء غزوة أُحد عليهم الرحمة حقهم الدنيوي. كما كان لصُلح قريش في أوائل النبوة دوره في حماية الرسالة و أرواح المسلمين الغالية على حساب الشهادة. فكما في رواية عنترة الشجاع، نرى المحافظة على روحه الغالية كان هدفه و إلا لما أقدم و تباطأ و فر حسب رؤيته للمعركة. لذلك، علينا فهم الشهادة كما فهمت و فعّلت وقت النهضة النبوية و ما تلاها كدافع جهادي تحريري لحماية أرواح المجتمع و ليس كتسليم رومانتيكي. عندما يقتل عدوي طفلة مثل هند رجب، فهو سفاحٌ مجرم. قاتلُ الأبرياء. قاتلُ الطواقم الطبية. لا شكر دنيوي يذكر في خطاباتنا الدنيوية بل نقمة دنيوية لجهاد أعظم. هند رجب و عائلتها و الطاقم الطبي شهداء عند الله يوم الحشر انشاء العلّي، و لكنهم قتلى في دنيتي. كما أن قتلى مقاتلينا أجمعين شهداء عند الله في الآخرة إلا أنهم قتلى عدوٍ في دنيتي أيضاً. هكذا نواجه مصيبتنا الدنيوية. نراجع أخطاءنا الدنيوية. نبكي خسارتنا الدنيوية. نلوم القاتل الدنيوي. وقتها يتحول الحزن إلى غضب، مثيراً نقمتنا الدنيوية على القاتل الدنيوي و ليس مثلجاً صدورنا شاكرين نعمة الآخرة. للآخرة حق كما للدنيا واجب. لقد سيء استخدام الشهادة لتهدئة المشاعر و لسلب الحراك الثوري. فقد حوَّل تعريف الشهادة المعاصر الحزن إلى شكر. و الغضب إلى صبر. و المحنة إلى ثواب. و الضعف إلى إيمان. ناسين قيمة حياة الإنسان في الدنيا. كلا، فلم ينتشر الدين الحنيف بعد غزوة أُحد كذلك. فعلينا مراجعة أنفسنا تجاه مصطلح الشهيد. فالشهيدُ شهيداً عند ربه، قتيلاً عند أهله، حيواناً بشرياً عند قاتله. هكذا، نُفعّل معنى الشهادة كي نتفادى الخسارة في الدنيا. فنحن شعب كجميع شعوب الانسانية يعشق الحياة الطيبة العادلة. يفضل دائماً الحياة على الشهادة في ظل الحياة الكريمة العادلة، و إلا لما نزل الكتاب الكريم بالآيات الدنيوية. و لما عاش الرسول الكريم سنين هنية. فالشهادة ما كانت يوماً الهدف، بل نتاج محبة الحياة الطيبة الكريمة. إن نظرنا إليها كذلك، حولناها كعامل فعَّال لإحراز حياة طيبة عادلة. لأن البشرية تعلمنا أننا عندما نقاتل لنعيش، نقاتل بعنفوان أعظم من أن نقاتل لنستشهد. هكذا حقاً قاتل السابقون وقتها و إلا لما انتشرت الرسالة و عاشت الأغلبية مكرَّمة.

ثانياً، علينا مراجعة معنى الشجاعة. فمما لا شك فيه هو أن العدو الصهيوني مجرم قاتل. فلا نقاش في ذلك. يقتل الأطفال و النساء و الشيوخ. يقتلع الشجر و يلوث البحر. لا يعني هذا أن العدو الصهيوني شجاع لأنه يقتل الضعيف ليرعب القوي، كما قد يسند البعض خطأ لعنترة، و لكنه لا يعني أيضاً أن عدونا جبان. دعنا لا نخلط بين الأجرام و الجبن فقد ضرّنا هذا تاريخياً. عدونا مستوطنٌ مستعمرٌ مجرمٌ و قاتلٌ. رغم أنه بشر مثلنا لكنه لا يرى البشرية في تكويننا. و لا الانسانية في اخلاقنا. و هو مدججٌ بالسلاح. يحاربنا عن بعد إن أمكنه ذلك. هذا كله صحيح. ولكن إن لقبناه بالجبان، كردة فعل منا لتجريده هو أيضاً من بشريته، اذ انتصر علينا في جولة مقبلة، كما تشاركنا سوياً نصراً و خسارة في جولات سابقة، كيف سيؤثر هذا في نفسيتنا القتالية؟ علماً بأن النفسية القتاليّة لها دورٌ أساسيٌ في القتال كما علمنا عنترة. صحيح أن عدونا متفوق علينا عسكرياً، و لكن في باطننا قد نراه جباناً ينتصر علينا. و هذا إن لم يؤثر على نفسية البعض سيؤثّر على نفسية الآخرين. بينما عدونا يصف أعداءه بالشراسة و قوة العقيدة ولا يمكن التقليل من إمكانياتهم، كما يصف حماس. أو بالعدو الهائل، كما يصف المقاومة الاسلامية، حزب الله. أو بالمعركة الشاقة و الطويلة و الوجودية كما يصف صراعه مع المقاومة عامة. هكذا يحضّر جنوده لحرب طويلة مع عدو شديد لحياة وجودية تحتاج نصراً حتمياً. بينما نحن نحضّر شعبنا و مجاهدينا لحرب عادلة و إنسانية و لكن مع عدو جبان لنيل احدى الحسنيين، احداهما الشهادة إن لم ننتصر. ناسين العوامل النفسية. فإن تغلبنا على العدو في هذه الجولة، فهو جبان أصلاً. و إن غُلبنا، فلأنه مدجج بالسلاح. و كلا السببين يكسر عزيمتنا. و لكن إن وصفنا العدو كمجرم جبار، مؤمن بعقيدته، رغم أنها لا تتطابق مع الإنسانية، مستعد للموت لتطهير ترابنا لتثبيت وجوده، وقتها سواء انتصرنا أم هُزمنا في تلك الجولة فنحن الرابحون. حيث إن خسرنا، فلقد خسرنا لند قوي. و إن ربحنا فلقد ربحنا نداً شجاعاً. و في الحالتين، نقوّي من نفسيتنا و عزيمتنا في وقت الهزيمة و وقت النصر على حدٍ سواء. لذلك علينا أن نصف الشجاعة كما وصفها عنترة بن شداد، ألا وهي دراسة الموقف، و على ضوئه، الإقدام أو الاحجام أو التراجع للحفاظ على النفس و تفادي الخسارة.

و أخيراً يمكننا أن نستنتج بأن عدونا اليوم شرسٌ، مسلحٌ، ذكيٌ، جبارٌ، و مسنودٌ. كما أنه قاتلٌ، مجرمٌ، و عنصريٌ. لكنه رغم ذلك بشرٌ مثلنا و ليس جباناً. وأن مقاومتنا لتخطّ لنا حياة عدل دنيوية، إنسانية، شريفة ،كريمة، و وجودية، لا لتكريمنا بالشهادة إلا لإحراز تك الحياة. و للحفاظ على الحياة الكريمة و الروح الشجاعة وجبت المواجهة المباشرة في غزة و الضفة و الداخل. فلا كرامة تحت الاحتلال القاتل. كما وجب الأنتقام لقتلة أهلنا و أحبائنا في فلسطين فلا شكر لقتلهم. تلك هي الشجاعة و هذا دَيّن الشهادة. كما وجبت حرب الاستنزاف التي يشنها الشعب اليمني و اللبناني و العراقي الشجعان. كما وجب على جميع دول الطوق المتخاذلة مساندة المقاومة بجميع أطيافها و تحرير بلادهم من الهيمنة الاستعمارية. فلا شجاعة و لا حياة كريمة و الهيمنة المتغطرسة موجودة في الوطن. أما بخصوص الشعوب المقاومة التي سبق ذكرها و غيرها بالنسبة لمواجهة صريحة مع الكيان الصهيوني المستعمر، فهذا علمها عند أولائك، حيث لا علم لنا بحقيقة قوة سلاحهم و إمكانياتهم. فهم ليسوا مستشهدين رومانسيين غير مبالين لحياة شعبهم و لكن محبو حياة كريمة أيضاً. أما بالنسبة لايران خاصة، فمعرفة قدراتها الميدانية لا تسقط عنها واجب المساندة في السياسة و المال و العتاد و إلا وجب علينا ايجاد البديل. لذلك بين حب الحياة الكريمة العادلة و تقدير مكانة النفس الدنيوية الغالية و الشجاعة العقلانية سننتقم و ننتصر على عدو قاتل جبار. سنحمي أرواحنا الغالية و ننتقم لأرواح شهدائنا الطاهرة لنخلد اسمنا في صفحات التاريخ. لنكون شعلة تنير درب مستضعفي الأرض. لنحظى بنصرٍ لحياة كريمة طويلة و سلامٍ بشري شامل بغض النظر عن الخلفية و العقيدة. خطأٌ إن ظننا و ظن أعداؤنا بأننا نقاتل للاستشهاد، فنحن شعبٌ يعشق الحياة الكريمة. يقاتل الظلم ليحيا عيش الكرام و ليس لشهادة كغاية دنيوية. لذلك وجب عليه دفع دَيّنه الدنيوي لشهدائه الكرام الذين قدموا أرواحهم الطاهرة لغاية تلك الحياة الكريمة. فهو لذلك شجاعٌ يُقدم إذا رأى الإقدام عزمًا، ويحجم إذا رأى الإحجام حزمًا، ولا يدخل موضعًا لا يرى منه مخرجًا حفاظاً على حياته الغالية ما استطاع لنيل حياة عدلٍ و شرفٍ و كرم. و رحمة الله على جميع شهدائنا الكرام، لهم علينا واجب دنيوي و حق لهم ثواب سماوي.

كتب بواسطة
نائل فرسخ
عرض جميع المقالات
كتب بواسطة نائل فرسخ

الكاتب

نائل فرسخ

التحق بنا