• بحث
  • استرجاع كلمة المرور؟

مراهقون

أما نعمة الحياة منزلٌ يترعرع فيه فتية في سن المراهقة؟ أو كما يرون أنفسهم، رجالاً و نساءً ينشؤون في سجون الوالدين. و رغم جهد تربية الصغار أيما كانت أعمارهم، إلا أن لسن المراهقة مكانته الخاصة في أدبيات التربية. فبينما يتذمر المَلأُ من صعاب تربية طفلٍ متمردٍ عنيدٍ وقحٍ و منفعلٍ، يتلذذ البعض رونق التربية لتلك السنين. ففي التمرد يلمحون الزعامة. و في العناد يرون الثبات. و في الوقاحة يسمعون الحق. و في الانفعال يشهدون الايمان. ذلك بأنهم يوقنون أن طفلهم الصغير بات يشق مساره الخاص. فهم يوقنون خير يقين، أن الإنسانية ما تطورت لو نُسخَ الطفلُ كالوالدين. و لأولئك، تتعالى ألحان الزعامة و الثبات و الحق و الإيمان في منازلهم. يودعون صغارهم و يستقبلون خلفاءهم. ففي تلك المنازل حوارات لا تنقطع بين سادة الخبرة و أولاد الابتكار.

و ها أنا أتذوق في منزلي نبيذ تلك الأنغام. فاليوم شاهدت مع ابني المراهق الفيلم العربي الفلسطيني “الجنة الآن” الصادر عام 2005. و لمن لم يشاهد فيلم المخرج هاني أبو أسعد، دعني ألخص مضمون الفيلم لبناء خلفية متينة لحواري مع ابني الأكبر. الفيلم يتناول آخر ساعات قصة شابين فلسطينيين و استعدادهما للقيام بعملية استشهادية في تل آبيب. خالد وسعيد، زميلين منذ الطفولة يسكنان مدينة نابلس الفلسطينية. ندرك من خلال القصة أنهما قد سبق أن تطوعا ليشاركا سوياً في عملية استشهادية حين جندا من قبل إحدى فصائل المقاومة الإسلامية للقيام بعملية استشهادية خلال 24 ساعة. بدايةً، يبدو للمشاهد أن إيمان خالد بالعمليات الاستشهادية هو الحافز الأساسي في اقدام الصديقين لذاك المسار. حيث يبدو سعيد متمسكاً بلذة الحياة، خاصة بعد وقوعه في غرام الآنسة سهى؛ الفتاة المتعلمة من عائلة ثرية التي تعمل في إحدى مؤسسات الأمم المتحدة الخيرية. بعد فشل المحاولة الأولى في اختراق الصديقين الحاجز الفاصل بين الأراضي المسكونة عربياً و المغتصبة صهيونياً، يرجع خالد إلى عناصر المقاومة الاسلامية بينما يعاود سعيد اختراق الحاجز دون علم خالد أو أفراد المقاومة الإسلامية. يبدو لقيادة المقاومة الإسلامية أن سعيد قد خانهم. و توسم المقاومة الإسلامية بعدم مصداقيتها أو اكتراثها بالمتطوعيين حيث يبدو أن همهم الأول والأخير هو سلام قيادتهم عند تنفيذ العمليات الاستشهادية. بينما يرى المشاهد سعيد يمتطي إحدى الحافلات الإسرائيلية استعداداً لتفجيرها بالمتفجرات التي تكسو جسده. تدور عدة حوارات متفاوتة سياسياً و عقائدياً بين خالد و سهى و هما يبحثان عن صديقهما سعيد. يرى المشاهد تراجع سعيد عن تفجير جسده حين يرى طفلاً صهيونياً يمتطي الحافلة. يعود سعيد إلى نابلس حيث يجده زميلاه خالد و سهى. يدور حوار آخر بين سعيد و سهى حيث يظهر خجل سعيد و غضبه لمقتل والده عندما اكتُشف أنه كان عميلاً صهيونياً. يعاود الصديقين مهمتهما، لنرى خالد يتخلى عن القيام بالمهمة بينما يرى المشاهد سعيد في حافلة أخرى مليئة بالجنود الصهاينة ويده مستعدة لتفعيل المتفجرات. ينتهي الفيلم بصمت طويل و شاشة بيضاء.

و رغم أنني شاهدت هذا الفيلم في عام 2005 وقت صدوره، وددت أن استمتع بفيلم عربي جيد مع ابني المراهق. فاغراء الجيل الجديد بفيلم عربي قد يعد من بعض معجزات العصر. فآفاق جيل اليوم واسعة، و امكانيات مشاهدة أفلام غير عربية مدبلجة و مترجمة عربياً باتت في متناول العديد. غير أن أكثرية جيل اليوم بات يتقن لغات أخرى و يفضل عادةً تلك الأفلام باللغات الأجنبية لجودتها و تنوعها. و لا يساعد تدني جودة العديد من الأفلام العربية و ضعفها في استقطاب هذا الجيل. فرغم القضايا التي يعيشها الشعب العربي من احتلالٍ و فقرٍ و فسادٍ و تفرقةٍ و جهلٍ، مما يقدم نصاً سينمائياً خصباً لإنتاج أفلام مجيدة، نرى غالبية الأفلام العربية تتنافس بين التفاهة و الاتفه. فظننتني باختيار فيلم مثل فيلم “الجنة الآن”، الحائز على عدة جوائز عالمية عدا عن ترشيحه لجائزة الأوسكار عام صدوره، بأنني وجدت فيلماً عربياً يمكنني التباهي به أمام ابني المراهق و أفلامه الاجنبية لعدة سنين مقبلة. و يا لحسرتي بعد انتهاء الفيلم وتلهفي لتقييم ابني لهذا الفيلم و إجابته بأنه لم يعجبه. تعجبت من جوابه العاجل. ألم يشاهد الفيلم الذي رأيته؟ ألم يعجبه كيف صور المخرج إنسانية شابين أوشكا أن يقدما روحيهما لوطنهما بسبب حياة الذل التي تعاش؟ ألم يستمع إلى الحوارات العقائدية بين خالد و سعيد و سهى و الأفراد المختلفة؟ ألم يتفطن لتحول الشاب المغرم بالفتاة إلى الشاب المندفع لتنفيذ العملية الاستشهادية لخجله من عمالة أبيه و استغلال الصهاينة لضعفه؟ ألم يشاهد الفيلم ذاته؟

أجابتني زعامة و ثبات و صدق و إيمان المراهق: “لا، لم يعجبني هذا الفيلم الركيك”. فالمراهق يؤمن بحق الشعوب لحياة كريمة. و لذلك يؤمن بحق الشعب العربي الفلسطيني لتلك الحياة. وحيث هذه الحياة الكريمة ليست في متناول يد الطفل والشاب والكهل العربي الفلسطيني المقيم على تراب بلاده، فمن حق أولئك أجمعين مقاومة العدو المغتصب بأي وسيلة كانت. كما هو حق أي شعب مستعبد تحت احتلال أيما كان. إيمان المراهق بتلك الحقوق لا يرى مغزى من فيلم يدخل في حوارات فلسفية مفلسفة لتبرير حق عقائدي إنساني. فهو عندما يرى فيلم أجنبي لمقاومة شرعية يهودية أوروبية لإحتلالٍ نازي أوروبي، قد يسمع عدة حوارات فلسفية و أيديولوجية حول نوعية المقاومة و كفاءتها و لكنه لن يسمع أبداً حواراً ليبرر حق المقاومة بذاته. و صدق المراهق يسمعُ نص الفيلم على حقيقته؛ فهو فيلم الضعيف يستنجد به رأفة القوي لإنقاذ شعبٍ عربيٍ فلسطينيٍ من قبضة مغتصبٍ صهيونيٍ. و صدق المراهق يوقن حق يقين، أن شعوب الإنسانية عبر التاريخ لم تتحرر يوماً بسبب إشفاق العالم لقضيتها إن لم تقدم هي نفسها تضحيات مجيدة لتحرير ترابها. و لذلك صدق المراهق لا يرى فائدة من تمثيل إنسانية الفلسطيني لأمم لم ترى انسانية مُستعبَد أو مُحتَل إن هو لم يفرض نفسه على العالم بأفعاله و تضحياته. و ثبات المراهق لن يتخلى يوماً عن حق إيمانه. فهو لا يكترث أبداً لوجهة نظر عدو أو جار أو صديق و إنما همه ثبات قيَمِه و التمسك بقناعاته. فثبات المراهق لا يرى مغزى من التملق لأب أو حبيب أو جار أو غريب لإطعام عيال و حياة سلام. وزعامة المراهق تَشع عندما ينظر بعيني والده الفخورة بخيارها و يقول لها: “لم يكن خيارك صائباً”. فالرياسة لا تكمن بالتملق لرب البيت و إنما الزعامة في ثبات العقيدة و اللسان و الفعل.

و هنا أدركت عمري. و أيقنت كبري. و ها نحن، كآباء وأمهات، أصبحنا كهولاً. فمن بعد سبعين عامًا تحت احتلالٍ صهيوني. و أكثر من مائة عام تحت تصرف غربي. و قرابة خمسمائة عامٍ تحت تخلف عثماني، نطمح أن نربي جيل أبنائنا كآبائنا و أجدادنا. نتمرد لزعامة أبنائنا بينما التبعية مرآة أفعالنا. و نعاند ثبات بناتنا بينما التملق نمط حياتنا. و نوبخ صدق أولادنا بينما الكذب شطارة روادنا. و ننفعل لإيمان بناتنا بينما جوهر العقيدة لا ترى نوراً في صلاتنا. و نستغرب حالنا و ذل بلادنا. لعلنا إن ربينا مراهقينا لزمان غير زماننا، تحررنا من قيود أعدائنا. لذلك عندما يتمرد المراهق في منزلك، وجِّه الزعامة في أفكاره. فالزعامة تترعرع في منزل يحبذ تضارب أفكارك بأفكاره. وعندما يغمر العناد تصرفاته، شجع الثبات في أقواله. فالثبات بنية ديمقراطية دياره. وعندما تزداد وقاحة كلمات لسانه، ابحث عن الحقيقة في أقواله. فالحقيقة تنبع في بيت لا عواقب للصدق بين جدرانه. وعندما يغشي الانفعال صراخه، تذوق الإيمان في وجدانه. فالإيمان المحض ينبع في بيت يتقبل شتى عقائد أفراده. وهكذا نتعلم من تمرد و عناد و وقاحة و انفعال مراهقينا، لنبني جيل الزعامة و الثبات و الحق و الإيمان لجيل يكسر كآبة ماضي أهاليها.

كتب بواسطة
نائل فرسخ
عرض جميع المقالات
كتب بواسطة نائل فرسخ

الكاتب

نائل فرسخ

التحق بنا