في العديد من الجلسات السياسية العربية اليوم، يبدأ الحوار غالبًا بقضية الصراع الفلسطيني الصهيوني، وهو موضوع يُجمع الحاضرون فيه على ضرورة وقف العدوان على غزة. إلا أنه مع انتقال الحديث إلى المحيط العربي، وصولًا إلى سوريا، يتلاشى الشعور الوحدوي العربي، لتظهر طيفاً واسعاً من الآراء المتباينة. تتراوح المواقف بين دعم النظام باعتباره “أهون الشرَّين”، وبين مساندة المعارضة كبديل ضروري، مع بروز مواقف أخرى تتأرجح بين هذين النقيضين. فنجد من يستشهد بدعم النظام للمقاومة المسلحة في لبنان، بينما يرى آخرون في المعارضة أملًا لإسقاط نظام ديكتاتوري مستبد مجرم.
لكن، قبل أن نتناول الوضع في سوريا، دعونا نلقي نظرة شاملة على الوضع العربي من منظور تاريخي. إذا تأملنا أوروبا قبل عصر التنوير، أي قبل القرنين السابع عشر والثامن عشر تقريبًا، لوجدنا سمات اجتماعية وسياسية وفكرية تميز تلك الحقبة عما تلاها. هذه الفترة، المعروفة غالبًا بالعصور الوسطى، اتسمت بحكم ملكي وراثي متسلط، وصراعات داخلية وإقليمية مستمرة، وحكومات مركزية ضعيفة أفرزت خليطًا من الدويلات المستقلة.
شهدت تلك الحقبة فسادًا اجتماعيًا وطبقيًا جرَّد الفرد من حقوقه، في حين مُنح كبار الطوائف امتيازات السيطرة، وكرّست ثقافة الاحتكار بين كبار الحرفيين. وهيمنت السلطة الدينية على جميع جوانب الحياة، من السياسة إلى التعليم والأخلاق، بينما ظل الفهم العلمي محدودًا ومقيَّدًا. أما الاقتصاد، فقد بقي بدائيًا وعاجزًا عن تحقيق تطور ملحوظ.
وقد يظن القارئ أننا بصدد وصف حال الدول العربية اليوم عند مقارنتها بأوروبا قبل عصر التنوير.
فكيف استطاعت أوروبا أن تخرج من ظلمات العصور الوسطى إلى أنوار عصر التنوير، ثم إلى عصر النهضة والثورات؟ الإجابة لا تكمن في دور الملوك أو المعارضات، بل في فلاسفة أشعلوا وعي الشعوب وأعادوا تشكيل الواقع. لقد شهد عصر التنوير يقظة فلسفية غير مسبوقة، انطلقت من تساؤلات جوهرية حول طبيعة الإنسان: هل هو كائن فردي أم اجتماعي؟ هل الخير هو طبيعته الأساسية أم الشر؟ وهل يمكن صياغة عقد اجتماعي بين الفرد والحكم يلتزم الطرفان بشروطه لتحقيق التوازن؟ ومن أبرز المفكرين الذين تركوا بصمتهم العميقة في تلك الحقبة:
1- جون لوك (1632–1704)
الأفكار الرئيسية: الحقوق الطبيعية للبشر عامة (الحياة، الحرية، الملكية)، الحكم بموافقة الشعب، والعقد الاجتماعي بين الفرد والحكم.
التأثير: ألهم الثورات الليبرالية، خاصة الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية.
2- فولتير (1694–1778)
الأفكار الرئيسية: الدفاع عن حرية التعبير، التسامح الديني، وفصل الدين عن الدولة.
التأثير: انتقد الملكية ورجال الدين، مما غذّى الأفكار الثورية في فرنسا.
3- جان جاك روسو (1712–1778)
الأفكار الرئيسية: السيادة الشعبية، العقد الاجتماعي بين الفرد و الحكم، و “الإرادة العامة” التي تجعل الشعب مصدر الحكم.
التأثير: كتابه العقد الاجتماعي ألهم قادة الثورة الفرنسية.
4- مونتسكيو (1689–1755)
الأفكار الرئيسية: فصل السلطات في الحكومة.
التأثير: شكلت أفكاره حول التوازن بين السلطات أساسًا للأنظمة الدستورية في الحكومات الثورية.
5- ماري وولستونكرافت (1759–1797)
الأفكار الرئيسية: الدفاع عن حقوق المرأة والمساواة، خاصة في التعليم والدور الاجتماعي.
التأثير: دفعت الفكر النسوي إلى النقاشات الثورية.
ولا يمكن التغافل عن دور كل من مارتن لوثر وتوماس هوبز في تمهيد الطريق لهذه الحقبة:
1- مارتن لوثر (1483–1546)
الأفكار الرئيسية: إصلاح الكنيسة الكاثوليكية، معارضة صكوك الغفران، وترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الألمانية لتوفير التعليم الديني للجميع.
التأثير: أطلق حركة الإصلاح البروتستانتي، مما أدى إلى كسر احتكار الكنيسة الكاثوليكية للسلطة الدينية والسياسية في أوروبا. شجعت أفكاره على تعزيز التفكير الحر، حيث أصبح الفرد هو المسؤول عن قراءة وتأويل الكتاب المقدس بدلاً من الكنيسة. كما أكد على المسؤولية الفردية في تقرير المصير بدلاً من الاعتماد على القدر، وهو ما ألهم الثورة الفكرية والاجتماعية فيما بعد.
2- توماس هوبز (1588–1679)
الأفكار الرئيسية: العقد الاجتماعي بين الفرد والحكم، السلطة المطلقة كوسيلة لحفظ النظام، ورؤيته للطبيعة البشرية بأنها أنانية وتنافسية، كما شرحها في كتابه اللوياثان.
التأثير: شكلت أفكاره أساسًا للفكر السياسي الحديث، خصوصًا في نقاشات السلطة والدولة. وعلى الرغم من دعمه للحكم المطلق، أثرت آراؤه حول العقد الاجتماعي على فلاسفة مثل جون لوك وجان جاك روسو، الذين طورا فكرة العقد الاجتماعي لدعم الحرية والحقوق الشعبية. وفق هذا العقد الاجتماعي غير المكتوب، يُفوِّض الشعب الحكم إلى الحاكم، ولكن إذا فشل الحاكم في حماية المجتمع وأداء دوره، يصبح من المشروع إسقاطه واستبداله بحاكم آخر يحقق العدالة ويحفظ المساواة بين أفراد المجتمع تحت رعاية الحاكم المطلق.
ومما يجدر ذكره أن أفكار هؤلاء الفلاسفة أحدثت تحولًا جذريًا في مسار أوروبا وأمريكا، حيث بدأ التساؤل حول طبيعة الإنسان لاستخلاص نظام حكم يتناسب مع تلك الطبيعة، وبيان واجبات كل طرف تجاه الآخر.
ولم يتوقف تحول أوروبا وأمريكا عند عصر التنوير فحسب، بل أعقبته إسهامات فلاسفة عصر ما بعد التنوير، والعصر الرومانسي، والثوري، مثل آدم سميث (1723–1790)، وإيمانويل كانط (1724–1804)، وجورج هيغل (1770–1831)، وكارل ماركس (1818–1883)، وفريدريك إنجلز (1820–1895)، وغيرهم، حيث قدموا رؤى سياسية واجتماعية واقتصادية متباينة. وسنترك تلخيص تأثيرهم لمقال لاحق.
ولكن إذا نظرنا إلى ما قبل عصر التنوير في أوروبا، وهو ما يشابه حال عالمنا العربي اليوم، لوجدنا أن فلسفتنا تتقاطع مع فلسفة نيكولو مكيافيلي (1469–1527)، الذي اشتهر بكتابه الأمير، والذي يُعد أحد أهم الأعمال في الفكر السياسي الواقعي. دعا مكيافيلي إلى دراسة السياسة كما هي في الواقع، وليس كما ينبغي أن تكون وفقًا للمثاليات. وركّز على أن أولويات الحاكم يجب أن تتمثل في استقرار الدولة وقوتها. ولم يشجع السلطة المطلقة لذاتها، بل ركّز على المصلحة العامة في الحفاظ على النظام، مشددًا على أن السياسة مجال مستقل عن الأخلاق، وأن على الحاكم اتخاذ قرارات تصب في مصلحة الدولة، حتى لو كانت هذه القرارات تتعارض مع المعايير الأخلاقية التقليدية.
وما يُغفل عادة هو أن مكيافيلي كان وحدويًا إيطاليًا، يرى في انقسام دويلات إيطاليا وفساد حكامها وهيمنة الكنيسة ضعفًا أضعف مكانة إيطاليا مقارنة بدول أوروبا الأخرى، خاصة فرنسا وإسبانيا الموحدتين. كان مكيافيلي يفضل الاعتماد على الذات، محذرًا من التحالفات الخارجية والتلاعب بالقوى الدولية، مشددًا على ضرورة نهوض إيطاليا كدولة موحدة وقوية تعتمد على جيش وطني بدلاً من المرتزقة أو التحالفات الخارجية.
ولكن العديد من الناس يربطون مكيافيلي بمقولة “الغاية يبرر الوسيلة”، رغم أن هذه العبارة لم ترد نصًا في كتاباته، لكنها تُستخلص من أفكاره. فهل تختلف هذه السياسة عن سياسة مؤيدي النظام السوري، الذين يرونه رغم إجرامه أفضل وسيلة لدعم المقاومة المسلحة في لبنان؟ أو عن سياسة مؤيدي المعارضة السورية، الذين يرونها رغم تجاوزاتها الخيار الأنسب لتخليص السوريين من نظام ظالم؟
وبعيدًا عن الأهداف الظاهرية، لا تبدو هناك أهداف خفية. فماذا يريد الطرفان غير تحقيق غاياتهما بأي وسيلة؟ ولكن، ماذا عن طبيعة البشر وطبيعة الحكم المطلوب؟ ماذا عن العقد بين الشعب والحكم؟ ماذا عن حقوق الشعب السوري وما يجب توفيره له؟ ماذا عن تطلعات الدولة ووضعها في محيطها الإقليمي والدولي؟ ماذا عن معيشة الفرد واقتصاد الدولة؟ ماذا عن حرية التعبير ومواجهة خطر الجوار الصهيوني المحتل للأراضي السورية والعربية؟
فبينما دعا مكيافيلي إلى وحدة إيطالية بأي وسيلة متاحة، طالب أيضًا باستقلالية إيطالية، ومركزية حكومية، ونقد جذري للهيمنة الكاثوليكية.
هذا لا يعني ضرورة إيقاف التغيرات في البلاد العربية، إذ لم يحدث يومًا أن حرّر نظام نفسه بنفسه. فلولا ثورات الشعوب لما تطور نظام الحكم. كما أن هذا لا يعني المبالغة في تضخيم الخسارة العربية لممر سلاح آمن، فلطالما تحررت الأوطان المستعمرة عبر النضال المسلح. ولكن، للوصول إلى فلسفة جديدة وفكر تقدمي يرسم ملامح مستقبل أفضل، فإن التغيرات المتتالية، رغم ما قد تخلفه من دماء وأخطاء، تظل ضرورية لخلق وعي قومي وإنساني يطالب بحكومة تعكس طموحات الشعوب وأهدافها.
ورغم أن بين مكيافيلي ولوك 200 عام، وبينه وبين روسو 300 عام، فإن تطور البشرية، وتشابك العالم، وظهور الذكاء الاصطناعي، قد يساهم في تسريع التغيير العربي الذي نتطلع إليه.
ورغم خسارة المقاومة لممر آمن، فإنها ربحت سقوط نظام ظالم. ورغم الدماء التي ستراق، والخيانة التي قد تُرتكب، والتعهدات الاستسلامية التي قد تُفرض، فإن كل ذلك قد يساهم في ولادة فكر عربي أعمق ومطالب شعبية أكثر ثراء. وكما مرت أوروبا بحروبها وجهلها قبل أن تصل إلى عصور التنوير والرومانسية والثورة، فإننا اليوم نسير في عصرنا نحو مراحل تنوير مشابهة، تتجاوز ما بعد المعارضة والنظام، وتفتح الأفق لعصر عربي جديد.