• بحث
  • استرجاع كلمة المرور؟

عندما يُؤلَّه الحُكم

لإشراقة وجه أمٍّ تحتفل بنجاح ابنها جمالٌ مدوٍّ، ولأسى وجه أبٍ يرثي طفلته حزنٌ مؤلم. فحبُّ الوالدين واحتضانهما لأولادهما نعمةٌ عظيمة، وحقٌّ مشروع، وواجبٌ أصيل. لكن تلك الحضانة لم تكن يومًا متكافئة في جميع البيئات.

فنشأة الطفل و الفرد تتأثر دائمًا بالبيئة الحاضنة. فإذا كانت تلك البيئة لا ترى إلا سلبياته، انكسرت عزيمته وتفاقمت عيوبه. أما إذا لم ترَ إلا إيجابياته، غمره الغرور وازاد فساداً. لذا، فإن دور البيئة الحاضنة هو تحقيق التوازن بين التشجيع والتنبيه.

في هذه البيئة المتوازنة، لا يمكن وصف نقد الوالدين لسلوك ابنهما بأنه نابع من كراهية، كما لا يمكن اعتبار تحفيزهما لنشاط ابنتهما بأنه يزيد من غرورها. بل إن دور البيئة الحاضنة يكمن في التشجيع والتنبيه على حدٍّ سواء، للإسهام في تنمية الفرد وصقل شخصيته ليحقق مستقبلًا مشرقًا.

هذه هي المحبة الطاهرة الحقيقية: محبة تشجع عند الحاجة وتنبه عند الضرورة.

وإذا أسقطنا هذا المفهوم على علم السياسة، فإن المجتمع يمثل البيئة الحاضنة، والحُكم يمثل الفرد الذي ينبغي تشجيعه عند الحاجة وتنبيهه عند الضرورة. وكلا الأمرين لا يدلان على كراهية أو غرور، وإنما يعكسان محبة المجتمع لأولئك الذين يتولون أمره.

وها نحن اليوم نقف أمام معاهدة وقف إطلاق النار بين الكيان الصهيوني والحكومة اللبنانية، بعد موافقة جميع الأطراف على روح هذا الاتفاق، بما في ذلك التزام المقاومة الإسلامية، حزب الله، بوقف إطلاق النار.

هذا الاتفاق، الذي جاء بعد اجتياح الكيان الصهيوني للأراضي اللبنانية، يحمل في طياته غموضًا وتحدياتٍ على حدٍّ سواء. فمن جهة، يفتح الاتفاق بابًا أمام تهدئةٍ قد تُمهِّد لاستقرارٍ نسبي في المنطقة، وفقًا لوجهة نظر البعض. ومن جهة أخرى، يُروَّج له كنصرٍ للكيان الصهيوني كما صوَّرته وسائل إعلامه. ومن جهة ثالثة، قد يُنظر إليه كهدنةٍ مؤقتة تهدف إلى إتاحة الوقت لإعادة إعمار الجنوب وتسليح الحزب، وفق رأي البعض الآخر. 

وعلينا، كبيئة حاضنة، أن ندرس الأمور دون ارتباط عاطفي زائف، بل بدافع المحبة للمقاومة الباسلة، مع واجب تشجيعها عند الحاجة وتنبيهها عند الضرورة.

أولاً: لا شك أن المقاومة الإسلامية وقفت موقفًا مشرفًا في مساندة غزة والضفة والداخل منذ 8 أكتوبر 2024، وهو شرف عظيم يسجل في تاريخها ولا يمكن إنكاره.

ثانياً: خلّف العدوان الإسرائيلي أكثر من 3,500 قتيل لبناني منذ 8 أكتوبر 2024، وأوقع أكثر من 15,000 جريح. كما أدى إلى تهجير ما يزيد على 1.2 مليون لبناني من منازلهم، مما تسبب في كارثة إنسانية مروعة وأثر عميق على النسيج الاجتماعي والاقتصادي للبنان. ورغم الدمار الهائل، والتشريد القسري، ومحاولات العدوان تعميق النزعات الطائفية، ظل هذا الوطن صامداً، متمسكاً بوحدته الوطنية، ومحتضناً للمقاومة بكل ما يملك من قوة وعزيمة.

ثالثاً: شكّلت اغتيالات الكيان الصهيوني لقيادات المقاومة الإسلامية، وعلى رأسهم سماحة السيد نصر الله، واختراقاته لأجهزة البث والاتصالات اللاسلكية، ضربة موجعة تركت أثرًا عميقًا على تنظيم الحزب. ورغم ذلك، نجح الحزب في تجاوز هذه الصدمة الكبرى، حيث قام بتنصيب أمين عام جديد في خضم الاجتياح، ليؤكد قدرته الفائقة على امتصاص الصدمات العنيفة والتكيف مع أقسى الضغوط الميدانية والإدارية.

رابعاً: مع تصاعد وتيرة الاحتلال في لبنان، اشتدت حدة المقاومة الإسلامية، حيث امتدت صواريخها لتضرب عمق الأراضي المحتلة. ولم تسمح المقاومة لجيوش العدو بالتمركز طويلًا في أي من قرى الجنوب، إذ رغم تقدم قواته، عجز عن فرض السيطرة الكاملة. ظلت المقاومة صامدة وشديدة البأس، تكبد العدو خسائر فادحة في العتاد والأرواح، لتؤكد قدرتها على التصدي لأعتى محاولات الاحتلال.

إذا أخذنا هذه المعطيات مجتمعة، لوجدنا أنه من حق لبنان والمقاومة الإسلامية السعي إلى إبرام معاهدة، سواء كانت مؤقتة أو شاملة، تتيح للبلاد فرصة لالتقاط الأنفاس وتخفيف وطأة الحرب المستمرة. ولكن يبقى السؤال الجوهري: ما هي بنود هذه المعاهدة؟ وهل تخدم مصلحة لبنان، والمقاومة الإسلامية، وفلسطين، والمنطقة بأسرها التي تتطلع إلى النصر والحرية من خلال نهج المقاومة المسلحة؟

أولاً: ذكرت وسائل الإعلام الصهيونية ثلاثة عشر بندًا وصفتها بالمهمة ضمن إطار هذه المعاهدة، وأشارت أيضًا إلى التعهدات الأمريكية الإضافية المقدمة للكيان. وبناءً على ما ورد، تم الحديث عن تحقيق ربح سياسي للكيان، وإن كان محدودًا. في المقابل، تناولت وسائل إعلام عربية، غربية، وشرقية بنودًا أخرى، بعضها ذكره الكيان وبعضها لم يتطرق له، والتي، وفقًا للتقارير، تشير إلى مكاسب محدودة للكيان الغاصب، من بينها استمراره في حملاته التجسسية ومحاولاته تفكيك سلاح المقاومة الإسلامية جنوب نهر الليطاني.

والجدير بالذكر أنه، حتى الآن، لم تُنشر بنود هذا الاتفاق عبر أي منصة رسمية تمثل المقاومة الإسلامية و حلفائها، عدا تجديد إقرار الحكومة اللبنانية بالالتزام بقرار 1701. مما يُبقي الصورة غير مكتملة ويزيد من حالة الغموض. وما يعمّق هذا الغموض التقارير التي تحدثت عن اختراقات جوية نفذها العدو بعد ساعات قليلة من إعلان وقف إطلاق النار، في مناطق مثل مرجعيون والخردلي. 

هذا الغموض فتح المجال أمام التكهنات والتفسيرات المتباينة بين من يرى في الاتفاق نصرًا ومن يراه خسارة، دون استناد إلى تحليل علمي دقيق أو معلومات رسمية موثوقة.

وهنا لا بد من التنبيه، كما وجب التشجيع عند استعراض النقاط الأربع السابقة، على أهمية خطاب البيئة الحاضنة الذي يعتمد على معطيات دقيقة وشفافة. فمن المعلوم أن خطاب رئيس وزراء الكيان الصهيوني كان معلنًا مسبقًا، وكذلك خطاب الرئيس الأمريكي. إضافة إلى ذلك، فإن المسودة التي استلمها لبنان والمقاومة الإسلامية، والتي صوت عليها مجلس الوزراء المصغر للكيان، وشهدت تحفظات من الجانب اللبناني والمقاومة، كانت متاحة لجميع الأطراف المعنية.

وعليه، كان من الضروري أن تبادر منصات المقاومة وحلفاؤها إلى عرض النقاط الأساسية لبنود هذا الاتفاق بوضوح لشعبها الحاضن، ليتمكن من قراءتها بعناية وإبداء دعمه وتشجيعه عند الحاجة، أو توجيه التنبيه والتحذير إن اقتضى الأمر.

ثانياً: في ظل غياب عرض رسمي من قبل منصات المقاومة المسلحة أو حلفائها للنقاط الأساسية المتداولة لدى العدو و حلفائه لمعاهدة وقف إطلاق النار، وجد المجتمع الحاضن نفسه مجبراً على تأويل نتائج المعاهدة بناءً على أهداف المقاومة الإسلامية منذ بداية حرب إسناد غزة ضد الكيان الصهيوني.

فمن المستحيل في الوقت الراهن تحديد مدى الانتصار الميداني لأسباب عدة، منها أن الجيش الصهيوني لا يزال متمركزاً في الأراضي اللبنانية لمدة قد تصل إلى 60 يومًا. إضافة إلى أن مسألة رسم الحدود لم تُطرح للنقاش بعد، حيث تم تأجيلها إلى وقت لاحق. كما أن هيئة اللجنة المشرفة على التزامات الأطراف لم تُعرّف بشكل واضح حتى الآن.

وبالتالي، يبقى الهدف الوحيد القابل للقياس هو نوعية إسناد المقاومة الإسلامية لغزة، والذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمقولة سماحة الشهيد السيد نصر الله حول ترابط وقف إطلاق نار المقاومة مع وقف العدوان على غزة.

عند مقارنة هذا البند بما حدث فعلياً على الأرض اليوم، يتضح أن سلاح حزب الله قد صمت بينما لا يزال العدوان الصهيوني الغاشم مستمراً في استباحة غزة وأهلها. ومن هذا المنطلق، يبدو، عند أخذ هذا المعطى المهم في الاعتبار، أن الحزب قد أخطأ إما في إعلان ارتباط سلاحه بعدوان غزة أو في صمت سلاحه قبل أن تصمت أسلحة عدوه في غزة. وهنا وجب التنبيه. 

ثالثاً: السؤال الذي يطرح نفسه: هل كانت هذه المعاهدة، ببنودها الغامضة وصمت سلاح المقاومة الإسلامية قبل توقف عدوان الكيان الصهيوني على غزة، لتُوقع لو كان سماحة السيد نصر الله حيًا يرزق بيننا؟

الإجابة على هذا السؤال قد تحمل بين طياتها أهم تنبيه للقيادات التي ورثت هذه المسؤولية. فالأمر لا يتعلق بما كان سيفعله سماحة الشهيد فقط، لأن هذا ينظر إلى ظاهر المشكلة وليس إلى جوهرها. بل يكمن التنبيه الحقيقي في ضرورة إرساء مؤسسة قوية تأخذ بزمام الأمور من القائد خلال حياته، بما يضمن استمرارية القيادة ونقل المسؤوليات لجيل شاب وجديد.

إن أحد أهم أسباب صمود مقاومة غزة أمام العدوان الصهيوني، رغم الاغتيالات المستمرة لقادتها عبر السنين، هو قدرة المقاومة الإسلامية (حماس) على ابتكار نظام مؤسسي متجدد يضمن توريث القيادة بسلاسة. فعلى سبيل المثال، في حين قاد الشيخ أحمد ياسين حركة حماس لمدة تقارب 16 عامًا، تولى عبد العزيز الرنتيسي القيادة لمدة 26 يومًا فقط، ثم جاء إسماعيل هنية لقيادة الحركة قرابة 7 أعوام، ويحيى السنوار 71 يومًا.

هذا النمط من التداول السريع للقيادة فرض حالة من اللامركزية في قيادة حماس، مما جعل اغتيال قائد مثل إسماعيل هنية أو يحيى السنوار غير مؤثر على استمرار الحركة في تحقيق أهدافها. وبالتالي، لم تُضطر حماس حتى الآن رغم الضغوط الميدانية و السياسية و المعيشية الهائلة إلى تقديم أي تنازلات في مفاوضات وقف إطلاق النار، ما لم تُضمن البنود التي تراها ضرورية ومتماشية مع استراتيجيتها.

هكذا تُبرز تجربة غزة وحماس نموذجًا يُحتذى به في تعزيز استدامة القيادة داخل المقاومة، بما يُجنبها الوقوع في مأزق الاعتماد المفرط على قائد واحد، مهما بلغت عظمته وحكمته. وهذا التنبيه هو واجبنا تجاه قادتنا الأشراف، إذ إن غياب منظومة توريث مؤسسية شابة قد يؤدي إلى تأليه الحكم والقائد، مما يفتح المجال لخليفة قد يُهدد بطمس إنجازاته بعد رحيله. وهذه ليست خسارة لسيرة القائد فحسب، بل أيضًا لشعبه الحاضن الذي حمل أعباء المقاومة وصنع معها تاريخها.

كتب بواسطة
نائل فرسخ
عرض جميع المقالات
اترك تعليق

كتب بواسطة نائل فرسخ

الكاتب

نائل فرسخ

التحق بنا