• بحث
  • استرجاع كلمة المرور؟

و هكذا انعزلت لغة الإعجاز – الجزء الثاني

في مقالنا السابق تناولنا جمود و تدهور القراءة والكتابة العربية في عصرنا. و عرَّفنا تفصيلياً نوع القراءة المقصودة في دراستنا بقراءة الكتب الورقية و الالكترونية و الغير دراسية و استثنينا غير ذلك. و عبر تحليل دراسات شتى ومقارنة قرائنا بقراء الدول المتقدمة استنتجنا بوضوح ساطع وضع لغتنا المؤلم في عصر التبعية والنفوذ الأجنبي. ولكننا وعدنا قراءنا الكرام بأننا لن نكتفي بتلاوة آفات حال لغتنا القارص كما يفعل الضعفاء منا، بل سنكمل مسيرتنا باشتقاق مذاهب عدة لتصحيح مسارنا. فنحن مقتدون بشجاعة ابن خلدون الذي خلد اسمه في التاريخ بوضع نهجه الدراسي التحليلي و رفض بعض إصدارات الأولين لتاريخ التبابعة و بني اسرائيل و البرامكة و غيرهم الكثير. ومن هنا لتبدأ مسيرتنا في الإصلاح بتقديم أفكار متواضعة لوضع الحلول الدراماتيكية التالية:

  1. يجب التفهم بأن تعقيدات السلف لا تتناسب مع متطلبات الخلف. فالشعر الجاهلي أشد تعقيداً من الشعر الإسلامي. و كلام الجاحظ أعقد تركيباً من كلام طه حسين. و بالتالي التبسيط واجب. و كما أضيفت النقاط على الحروف تدريجياً لتسهيلها و تمكينها بعد نزول القرآن و إقبال غير العرب على العربية بداية بأبي الأسود الدؤلي في عام 67 هجري و ختاماً بنصر بن عاصم الليثي ويحيى بن يعمر العدواني، علينا تبسيط وتطوير هذه اللغة لتواكب تطورات اليوم و انفتاح البلاد على بعضها. فنحن نصرح بأنه يجوز للعاِلمِ العربي أن لا يكونَ عالماً باللغةِ العربية قبل أن يكونَ عالماً بعلمهِ. و لنصل لذلك علينا تبسيط النحو و الصرف و القواعد و حتى الإملاء. و هذا سوف يؤدي لمخالفة قواعد القديم بلا ريب. فإن اتفقنا، على سبيل المثال على جمع الكلمة أيا ما كانت، مؤنثة أو مذكرة، رفعاً أم نصباً أم كسراً بواو الجماعة، هل ينقص ذلك من معنى الجملة شيءً؟ فإن كتبنا: مريم ومنى و عائشة ذهبوا، عوضاً عن: مريم و منى و عائشة ذهبن؛ هل ضاع المعنى؟ و إن ألغينا المثنى و عاملناه جمعاً، هل فقدنا دلالته في الحديث؟ فإن كتبنا: محمد وأحمد ذهبوا، عوضاً عن: محمد و أحمد ذهبا؛ هل اختل القصد؟ ألا نفعل ذلك بالعامية اليوم أصلاً؟ و إن طالبنا باستعمال الفاصلة بدل الواو الرابطة بين الكلمة و شقيقتها للإيجاز و إيضاح المعنى، هل نزعنا نثرنا؟ فإن كتبنا: دراسة تحليلية، مفصلة، منظمة، و متقنة، كما في الإنجليزية على سبيل المثال، بدلاً من تكرير الواو، هل خسرنا قراءنا؟ وإن استبدلنا جميع الهمزات بالهمزة المنصوبة على الألف والنبرة و الألف المقصورة إن جاءت في أول ووسط وآخر الكلمة على التوالي وحولنا كل تاء إلى تاء مفتوحة دائماً، أخسرنا تراثنا الأدبي؟ فإن كتبنا: أحب قرائت وكتابت اللغت العربيت، عوضاً عن: أحب قراءة و كتابة اللغة العربية، هل اختلف المعنى أو حتى اختلف النطق؟ إن تخلصنا من جميع علامات الإعراب و وكلنا علامة واحدة فقط لكل الأسماء و الأفعال و ما غيرهما، هل احكمنا إغلاق التابوت على لغتنا العريقة؟ فإن قلنا: علينا بتغيرْ جميعْ تشكيلاتْ كلماتنا، عوضاً عن: علينا بتغيرِ جميعَ تشكيلاتِ لغتنا، هل فقدت لغتنا فصاحتها؟ و هل يقلل كل ذلك من قدسية القديم أو متانة الحديث؟ فكم منا يقرأ لابن خلدون مقدمته و للجاحظ بيانه؟ و حتى إن تعارض النحو و الصرف و القواعد و الإملاء مع القديم هل يضعف ذلك القديم أم يبطل الجديد؟ في يقيننا أن العكس أصوب. فالقارئ عندما يقرأ أشعار أمرئ القيس أو المهلهل أو الأعشى، يقرأ و المعجم في يده و التاريخ يقوده. والعربي المسلم عامة عندما يقرأ القرآن يقرؤه و عين تتلو ما أنزل في الكتاب و أخرى تستنتج ما دُوِّن في كتب التفسير. ونحن بتحديث و تبسيط النحو و الصرف و القواعد و الإملاء إنما نزيد عدد كتابنا و بالتالي نمو قرائنا. و هذا ليحيي أجيالاً تقبل على القراءة. وذلك ليولّد فضولاً لمن لا يكتفي و لمن لا يرتوي إلا بالمزيد. و لأولئك العلماء منا رحيق علوم النحو و الصرف و القواعد لتذوق القديم و تأويل القرآن الكريم كما يستوجب بيانه. و دعنا نصرح للقوم أجمع بأننا لا نقدم على هذا التحديث بلهفةٍ غير مبالين و إنما بتأنٍ مدروس و بقلبٍ مثقلٍ، فنحن على يقين بأننا سنؤثر في جلال تركيب الكلمة وجمال إيقاعها في قلوبنا و عظمه تعبيرها في آدابنا. و لكن ما أظننا لم نفطم بعد من أسطورة أن عامة العرب مالكون فن الشعر بالفطرة. فهل أُكرم العرب بنعمة جمال الخطاب على غرار شعوب الإنسانية الأخرى؟ فالعرب عامة لم يملكوا هذه النعمة لا في الجاهلية ولا في صدر الإسلام ولا بعدهما. وإنما من ملكها منهم أقلية مجيدة تمثل حضارة البلاد وقتها مجسدة بشعرائها وكتابها المخلدين كأقليات أدباء حضارات العالم أجمع. و هذا التحديث و التبسيط الذي نرنو إليه سيحد ما بين الفصحى و العامية من ثغرات في الحياة اليومية لعامة العرب ليجدد شبابها. و يقرب الخطاب بالفصحى المقيدة لغوياً للعامية الغير مقيدة نحوياً. و رويداً رويدا، لتزدهر الفصحى الحديثة عربياً لدواعٍ اقتصادية. فالأسواق العربية بتعداد سكانها الذين يفوقون الأربع مائة و ثلاثين مليون نسمة لعام 2020 بحاجة ملحة للغة تمثل خطابهم اليومي. و هكذا تجرد من سموها اللغة الانجليزية والفرنسية المتفشية في دول الاستيطان العربية سابقاً و تستبدل بلغة الوحدة والانفتاح العربية الحديثة. لتنشئ نهضة عربية ليست أدبية فحسب ولكن حضارية و جامعة لجميع سكان الأقطار العربية.
  2. علينا النظر في خمول معاجمنا و قواميس مفرداتنا. ولكن دعنا نعرف الكلمة أولاً. فتعريف الكلمة هي اللفظة الدالة على معنى مفرد بالوضع، و تكون إما اسم يدل على موصوف أو فعل يدل على حادث أو حدث أو حرف. و لذلك فالكلمة الواحدة تدل على معنى فردي لا تشاركها بها تركيبة أحرف أخرى. ولاحصائيات مفردات المعاجم تعتبر مشتقات الكلمة إن قدمت المعنى ذاته كلمة مكررة ترجع إلى معناها للتركيبة الحرفية الاصلية. و للذين يزعمون أن اللغة العربية أغنى لغات الوجود نقول لهم أن اللغة العربية كانت أغنى لغات الإنسانية في ذروة الحضارة العربية الإسلامية كما كانت الإغريقية واليونانية في ذروة حضارتيهما و كما اليوم الانجليزية لها من المفردات في لغتها ما لأي لغة معاصرة. و لكن هل يعني ذلك أن تدهور مقام اللغة العربية لا محالة له كمصير اللاتينية أو الأرقام الهندية التي استخدمها العرب سابقاَ؟ كلا، فليس القرآن وحده حاميها وإنما لعدد فقراء ناطقيها دورًا اساسياً في تثبيتها. فبينما برجوازية المدن العربية تتلمس رقيًا غربيًا باللغات الأوروبية عامة و الانجليزية خاصة، يبقى فلاحو و بدو و فقراء المدن و الريف في عربيتهم متجذرين. و كما أن لسواعد هؤلاء الفضل التاريخي لإعتاق وثاق الأمم من أوتاد مضطهديها، يبقى الفضل لهم لثبات اللسان عربيًا. فبينما نحن ندرس كيفية تعريب “الكيبورد”و “البلوتوث” لا يرى أولئك من هذين شئ فهم مرابطون في شقائهم يعملون ليلاً نهاراً لرغيف خبزٍ و منامٍ دافئٍ. لكن هذا لا يبرر عدم التحديث.فكما أشرنا في مقالنا السابق، على معاجمنا التحديث و التبسيط و إدماج آلاف الكلمات الجديدة سنوياً لئلا تتراكم مفردات علوم العصر علينا مريثةً نهوضنا. فكما أشرنا في مقالنا السابق، فبينما قاموس ميريام وبستر الإنجليزي أضاف 600 و 500 كلمة جديدة لمعجمه لشهري أيار وأيلول لعام 2019 و سنوياً يضيف ما يقارب الألف كلمة، لم يصل مجمع اللغة العربية في القاهرة إلا إلى حرف الشين بعد 60 عاماً من مراجعته الكلمات العربية في معاجمنا. فبعد ذلك كله، أظننا فصلنا موقفنا من جمود معاجمنا وقواميس مفرداتنا تفصيلاً عميقاً و لسنا بحاجة للإطالة أكثر.
  3. علينا الإنفاق على برامج تحبيذ القراءة و الكتابة بالعربية المبسطة الجديدة. فالإصلاح يبدأ مع الصغار. فبينما كتاب الصغار “هيري بوتر” يباع منه 2،7 و 8،3 مليون نسخة خلال الأربع وعشرين ساعة منذ صدوره في بريطانيا و أمريكا على التوالي عام 2007، لا تباع من كتب صغارنا هذه الأرقام في العقد الواحد إن لم تكن أبدا. فتشجيع القراءة يبدأ بالحضانات والمدارس. فطفل الفصل الخامس في المدارس الأمريكية يُطالب بقراءة كتاب لمدة 30 دقيقة يومياً ليناقشه مع مدرِّسيه وزملائه وأهله. وهكذا يقرأ الطفل بجهدٍ و مواظبةٍ و ثباتٍ يوماً بعد يومٍ إلى أن يؤسس لديه جَلد القراءة و يتذوق أخيراً ذاك الكتاب الذي يسحر وجدانه. ذاك الكتاب الذي يشعل لهيب القراءة في كيانه. ذاك الكتاب الذي يخلق من عرقِ الفكر مَتعة القراءة عنده. وقتها، يفطم التلميذ الصغير من واجب القراءة ليشب قارئاً. و أطفالنا و شبابنا لا يكادون أن يطالبوا بأن يقرؤوا شيئاً. فلا يكتشفون كتابهم الذي يناشدهم. و يبقى مدرسونا يتباهون بابن خلدون و لا تُقرأ مقدمته. و يتحدثون عن انفتاح شعبنا و أدبنا لطه حسين ولا تُقرأ أيامه. ولا يطلبون من تلاميذهم قراءة شئ خارج الفصل غير منهاج المدارس. و كالاسطوانة المشروخة لا يقدموا أولئك أي جهد يذكر غير نصيحة لأولادنا و أهاليهم بتشجيع قراءة القرآن لتحسين عربيتهم؛ كأن طفل في العاشرة يفقه ما يقرأ من الكتاب الكريم الذي يعجز علماء عصرنا عن تأويله دون مرجعية لكتب التفسير و التاريخ. فمناهجنا ومدارسنا و مدرسونا بتحجرهم و خمولهم لا يقدمون لأطفالنا ما يستوجب لتحفيزهم۔ و هكذا إن أقدم أولادنا على كتاب “هاري بوتر” لا يقرؤونه إلا بالانجليزية و يكادون لا يقرأون شيئاً عربياً غير ما يقرأ في منهاج الفصل. فالتحديث في المنهاج و المدارس و التدريس واجب. و تشجيع القراءة يبدأ بتبسيط و تحديث و تنويع الكتابة. و هذا التحديث الملح ليخلق جيلاً جديداً من الكتاب الصغار الذين لا يرهبون القلم بل يرونه محرراً و مدوناً لما في أعماقهم من عواطفٍ و خيالٍ و لهيبٍ. و هذا ليقدم لقرائنا ما قدم السلف في ذروة الحضارة العربية الإسلامية لقرائهم. و كل ذلك ليخلق لهفة القراءة عند أطفالنا و شبابنا.
  4. مما لا شك به أن الطابعة ثم الثورة الصناعية ثم الحاسوب سارت خطوات سريعة في تقدم الإنسانية. فالتكنلوجيا اليوم تمثل إما عاملاً أساسياً لمعونة أو عرقلة تقدم الشعوب. و غدت التكنولوجيا للآداب كما القلم للورق سابقاً. فالتكنولوجيا لكتاب الدول المتقدمة، برامج كتابة و مراجعة إملائية و نحوية و معاجم و قواميس مفردات و وسائل طباعة و تصنيف و نشر. بحيث ما على الكاتب إلا أن يكتب سطراً في إحدى هذه البرامج ليرى جميع أخطائه الإملائية و النحوية و لائحة بدائل أمتن لتركيبة جمل يمكنه الإستعانة بها عوضاً عما كتب. فمعجم وطيد مرتبط بما طبع. و قاموس مفردات حديث في متناول اليد. وقواعد وصرف تصحح ما كتب. وما على الكاتب العربي سوى أن ينحل بضع أبيات شعر قديم أو يطبع بضع فقرات ليرى ركاكة برامج إملائنا و قواعدنا و قواميسنا و مفرداتنا. فتأخر بلادنا يستفيض بتأثير بدائية تكنولوجية آدابنا. فنحن هنا نناشد و نطالب بتطوير هذه التكنولوجيا للتناسب مع متطلبات عصرنا.

و هنا يعلو صراخ العديد؛ وأن ما يُطالب به سوف يدمر لغتنا العريقة! فنجيبهم؛ يدمر اللغة التي قراؤها لا يقاربون الواحد بالمئة من قراء الدول المتقدمة؟ أم لغة المتدينين الذين لا يقرؤون لعقيدتهم سوى واحد بالمئة مما يُقرأ للدين في تلك الدول التي فصلت الدين عن الدولة؟ أم اللغة التي رويداً رويدا تكتب بالأحرف الإنجليزية و بعض الأرقام العربية في مواقع التواصل الاجتماعي؟ أم اللغة التي يطالب البعض بتحويلها عامية و تشتيتها كما تفتت بلادنا؟ أم اللغة التي يرى البعض إبقاءها للدين الحنيف و آداب القدماء فقط كما اللاتينية لدينها و آدابها؟ دعنا نقتبس من مقولة الدكتور طه حسين في الرد،”فنحن لم نكن هدَّامين ليس غير، وإنما هدمنا لنبني. و نحن نحاول أن يكون بناؤنا متين الأساس قوي الدعائم.”. ونحن أيضاً هدمنا لنبني. فقد يكون ما اقترحنا للتحديث و التبسيط ليس بالحل الأجود، فنحن لم نزعم ذلك قط. ولكن على قناعة بأن التحديث إجباري و ملزم. و ما علينا سوى تحديد متى نبدأ رحلة التحديث هذه. أهي في عصرنا أم عصر أولادنا أم عصر أحفادنا؟ فكل ما نطالب به هو أن نُحدث اليوم لئلا يلومنا أولادنا كما نلوم نحن آباءنا. و إلا لتبقى لغة الإعجاز في انعزالها وتحجرها في عصر التبعية إلى أن يأتي من يهزأ بنا و يجدد شبابها. وخير ختام لمقالنا هذا و ما قدمناه من حلول لتبسيط و تطوير اللغة ما كتبه العلامة ابن خلدون في مقدمته، و كأنه يورث ابتكاراته في التحديث و شجاعته في التغيير لمن بعده. وكأنه يذكر بأن ليس هناك صواب حتمي في العلم و لكن دراسة و شجاعة و نقد:”وأنا من بعدها موقنٌ بالقصور، بين أهل العصور، معترفٌ بالعجز عن المَضاء، في مثل هذا القضاء، راغبٌ من أهل اليدالبيضاء، و المعارف المتسعة الفضاء، النظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء، و التغمُّد لما يعثرون عليه بالإصلاح و الإغضاء. فالبضاعة بين أهل العلم مزجاةٌ، والاعتراف من اللوم منجاة، والحسنى من الإخوان مرتجاة، والله أسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وهو حسبي ونعم الوكيل”.

كتب بواسطة
نائل فرسخ
عرض جميع المقالات
كتب بواسطة نائل فرسخ

الكاتب

نائل فرسخ

التحق بنا